سامح راشد
لماذا افتعل الغرب أزمة مع روسيا بشأن أوكرانيا؟ وليس الهدف، بالطبع، مجرد التعرف على دوافع الغرب، أو أسباب اندفاع روسيا إلى العمل العسكري، وإنما الغاية الأهم فهم كيف يفكر العالم ويتصرف، خصوصا الولايات المتحدة التي تعد بحق اللاعب الرئيس في إشعال هذه الأزمة، فهي أزمة مصنوعة بامتياز، بل ومخطط لها مسبقا، فالغرب هو الذي «تحرش» بروسيا، وظل سنواتٍ يمعن في سياسة اختراق المجال الحيوي الروسي، حتى وصل إلى الحدود الروسية نفسها، وصارت موسكو مهددة بنشر صواريخ بإمكانها ضرب الكرملين. كما أن الغرب ظل أسابيع يروج غزو موسكو أوكرانيا، وراح إعلام الغرب ومسؤولوه يرددون ذلك صباح مساء. حتى بدا الأمر كأن الخطاب الغربي، الأمريكي تحديدا، لا يحذر موسكو من الغزو، وإنما يحرضها عليه.
وقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الفخ، أو هكذا تظن واشنطن وشركاؤها في حلف شمال الأطلنطي، فقد بالغ بوتين في ردة الفعل، وسارع إلى التحرك العسكري، في حين كان بوسعه الانتظار والتفاوض والتهديد والمناورة بأوراق كثيرة لديه، العمل العسكري المباشر ليس إلا إحداها، غير أن حسابات موسكو ودوافع قرارها غزو أوكرانيا، ربما تتجاوز المعطيات المباشرة المتعلقة بمساعي (أو بالأحرى نوايا) حلف الأطلنطي ضم أوكرانيا إليه.
ولما كان العالم حاليا عالم مصالح لا إيديولوجيات، فإن استدراج الغرب موسكو نحو هذه الأزمة ليس إلا لأهداف مصلحية. أولها وأهمها كسر شبكة الروابط الاقتصادية التي بنتها موسكو، ولا تزال مع قوى مختلفة في العالم، أخطرها بالنسبة إلى الغرب هو التعاون مع أوروبا في مجال الطاقة. وهنا لا بد من الانتباه، فعند الحديث عن المصالح لا يكون الغرب واحدا، خصوصا مع اختفاء التناقض الإيديولوجي بين الغرب والشرق، فهنا يكون ضرب أية ارتباطات روسية أوروبية مصلحة أمريكية تحديدا. ويؤكد ذلك التحليل، الانقسام الأوروبي والتردد في مجاراة التصعيد والتحريض الأمريكي لموسكو. خصوصا من ألمانيا، فهي المستفيد الأول من التعاون الطاقوي مع موسكو. ويزداد الأمر وضوحا إذا تذكرنا أن تشغيل خط أنابيب «نورد ستريم» كان وشيكا، لولا اندلاع هذه الأزمة. وبينما كان الموقف الأمريكي، تحت رئاسة دونالد ترامب، يبتعد عن أوروبا، بل واقترب، في حالات كثيرة، من موسكو، فإن إدارة بايدن والعقل الديمقراطي عموما، يتمسك بارتباط أوروبي وثيق وعضوي بواشنطن.
لكن ماذا يضير واشنطن في تقارب روسي أوروبي، ما دامت الحرب الباردة انتهت، ولا محل للإيديولوجيا؟ الواقع أن واشنطن ليست متضررة من روسيا، ولا من الاتحاد الأوروبي، فالأوروبيون صاروا عبئا أمريكيا تتمنى واشنطن أن تتخلص منه، ويتولى الأوروبيون إدارة أمنهم ومصالحهم بأنفسهم. فيما تمثل الطموحات الخارجية لموسكو وتوسيع نطاق نفوذها عبر مناطق مختلفة مصلحة أمريكية غير مباشرة، إذ تتماشى مع التراجع الأمريكي عن التدخلات المباشرة، والانخراط العميق في أقاليم مثل الشرق الأوسط وإفريقيا.
الخشية الأمريكية الكبرى ليست من الدب الروسي، وإنما من ذلك العملاق الأصفر القابع هناك في أقصى شرق آسيا… الصين، فمن دون فصم عرى الارتباط والتنسيق الروسي الصيني، تزداد مواجهة الصين صعوبة وتكلفة حتى تكاد تستحيل.
الغاية النهائية الأمريكية، وبقدر ما الأوروبية، ليست ضد موسكو نفسها، وإنما فقط لتحجيمها وضمان عدم عودة القطب الأعظم الثاني مرة أخرى، حتى تتمكن واشنطن من التفرغ للصين التي بالتأكيد تصير أضعف بضعف موسكو.