حسن البصري
ليس دوار السكويلة مجرد فضاء سكني هامشي لإنتاج الانتحاريين والباعة المتجولين وفصائل العاطلين، بل مصنعا لإنتاج الأبطال والمبدعين.
ليس دوار السكويلة الذي نبت في هامش الدار البيضاء منذ سنة 1930، مرتبطا بمجينينة الذي كان عداء للمسافات الطويلة قبل أن يتحول إلى هارب من العدالة، أو الرايضي المتطرف الذي كان حاصلا على الحزام الأسود في فنون القتال قبل أن يستبدله بحزام ناسف، أو ولد رابحة الذي ربح مبلغا ماليا خرافيا في لعبة الرهان فتاب توبة غير نصوح، وغيرهم من النماذج التي حيرت رجال الأمن والمخبرين.
ليس هؤلاء وغيرهم هم منتوج دوار السكويلة، بل هناك أبطال صنعوا مجد الحي عالميا، ووقفوا فوق منصات التتويج ينصتون لعزف النشيد الوطني وأمام عيونهم تتراقص لعوينة والدروب الضيقة وملاعب القرب التي تحتلها أكوام الأزبال.
شاءت الصدف أن تتأهل ثلاث ملاكمات مغربيات لأولمبياد باريس، كلهن ينتمين لهذا الحي العريق، انتزعت كلا من خديجة المرضي وياسمين متقي ووداد برطال تأشيرات العبور، تفوقت الملاكمات المغربيات في التصفيات الإفريقية التي أقيمت بدكار السنغالية، وتبين أن ما يجمعهن هو روح الانتماء للحي ولنادي إينرجيك وللوطن.
من دوار السكويلة خرج الملاكم العالمي محمد ربيعي، الذي تنتظره دورة استدراكية للتأهل للألعاب الأولمبية، كما تخرجت من دروبه المتراصة في طابور الهشاشة بطلة العالم في التيكواندو والمواي تاي مريم مباريك، وأسماء أخرى علمها الفقر كيف تواجه عاديات الزمن في الحي وفي حلبات القتال.
الآن وقد مسحت السلطات دوار السكويلة من الخريطة، واستبدلت السكن الأفقي الراقد على جنبات مصنع الجعة، بأحياء سكنية عمودية، لابد من الاعتراف بأن الملاكمة وفنون القتال والركض رياضات للفقراء، ولابد لمشاريع التنمية المستدامة أن تستحضر الرياضة والدراسة في تصوراتها، لأن أصل تسمية الدوار هو مدرسة “سكويلة” يهودية كانت تمتد على مساحة كبيرة وسط البساتين، وكانت تجمع بين التكوين المهني والأكاديمي ولا تقتصر على اليهود فقط بل يتعايش وراء أسوارها المسلمون واليهود والمسيحيون.
تحولت السكويلة اليوم إلى مقر لشركة صناعية، وغزا المنطقة مهاجرون دفعهم الجفاف والأوبئة إلى التحصن بدوار مجاور للمدرسة، قبل أن تختفي السكويلة ويتمدد الحي ويتحول إلى بؤرة توتر حقيقية ومختبر لتجارب وصفات التنمية السريعة.
قبل دوار السكويلة، كان كاريان سنطرال يشكل نصف عناصر المنتخب الوطني للملاكمة، حتى اعتقد الناس أن الملاكمة جزء من ذاكرة هذا الحي كالظاهرة الغيوانية والطاس وكيرا، كان الاتحاد البيضاوي وخشبة الحي المحمدي يصنعان أبطال القفاز، ويمنحان للفريق الوطني جنود الحلبات الذين يرفعون علم المغرب خفاقا في المحافل الدولية، هؤلاء صنع الفقر عزيمتهم وبدا من خلال معاركهم أنهم يسعون لهزم الهشاشة والتهميش بالنقط والكاو.
ما ينبت من مواهب بين الفينة والأخرى في الأحياء الهامشية للدار البيضاء، تجد نسخا منها في دواوير الكرعة والمعاضيد والدوم في الرباط وفي مدن أخرى.
لهذا استلهم المنتجون والمخرجون تجارب الهشاشة من كتاب اخترقت أقلامهم المعيش اليومي لأشخاص شكلوا الاستثناء، فكانت رواية “نجوم سيدي مومن” لماحي بنبين دافعا لبعضهم لفهم ما يجري في دائرة البؤس، حين رسم ماحي دوار السكويلة بجميع تعقيداته المعمارية والمجتمعية والروحية، قبل أن تتحول الرواية إلى سيناريو فيلم “يا خيل الله” الذي استفز عباد الله في الحي الهامشي، أو من خلال رواية “ولد الكاريان” لعزيز سدري الذي يختلف عن سابقه ماحي في كونه عاش في دوار السكويلة وقفز فوق أكوام نفاياتها وراوغ كل محاولات الزج به في متاهات أخرى.
سيأتي يوم ينتشر فيه باعة قفازات الملاكمة وبذل فنون القتال في الأحياء الهامشية، وتصبح هذه الفضاءات المقلقة مصدرا للسعادة.