دفاعا عن الطبيب
من كثرة ما نكتب حول الرشوة في الوظيفة العمومية، يعتقد الناس أن جميع الموظفين مرتشون، ومن كثرة ما نتحدث عن الفساد في المحاكم يعتقد الناس أن كل القضاة فاسدون، ومن كثرة ما ننشر حول اعتقال أطباء بسبب تلقيهم رشوة أو إعطائهم لشهادة طبية مزورة يعتقد الناس أن كل الأطباء يستحقون السجن.
والحال أن كثيرا من الموظفين والقضاة والأطباء يشتغلون بأنفة وعفة، لكن لا أحد يتحدث عنهم لأنهم لا يصنعون الحدث.
وهذه الأيام تتلقى مهنة الطب الضربات من كل صوب وحدب، سواء على يد بعض ممتهنيها الذين اختلط عليهم الأمر فلم يعودوا يعرفون هل هم أطباء أم نجوم فيسبوكيون، أو على يد بعض من يريدون تصوير الطبيب المغربي كشخص تنقصه المواطنة لذلك يرفض الذهاب للاشتغال في العالم القروي.
مناسبة هذا الكلام هي إعلان وزير الصحة عن استقالة 180 طبيبا في المغرب أغلبهم امتنعوا عن العمل في المناطق النائية.
هذا التصريح بهذه الطريقة يخفي الشمس بالغربال، فالأطباء لا يقدمون استقالتهم ويمتنعون عن الذهاب للعمل في العالم القروي لأنهم ناقصو مواطنة، بل لأن هناك أسبابا وجيهة لقرارهم هذا، وكما يقول المغاربة “حتى مش ماكيهرب من دار العرس”.
والحقيقة أن أغلب الأطباء، إن لم يكن كلهم، يحجمون عن العمل في العالم القروي بالقطاع لأسباب كثيرة، ففي المستوصفات النائية لا يوجد طب متقدم بحيث يتحول عمل الطبيب إلى مجرد غرفة تسجيل وتوجيه نحو أطباء المدن الكبرى دون أن يستطيع تقديم خدمة في المستوى لمرضاه.
وإن كانت هذه المستوصفات في الحقيقة هي لتقديم الخدمات الصحية الأولية إلا أن عدم وجود مستشفى إقليمي في المستوى في عدة أقاليم يجعلها غير قابلة للحياة، فيتحول دورها إلى شبه عمل إداري لا تقدم سوى خدمات في التلقيح ومتابعة الحمل، رغم أنه ليست كل المستوصفات مجهزة بأجهزة الفحص بالصدى، والصحة المدرسية وبعض الفحوصات العادية.
ما لا يكشف عنه تصريح الوزير هو أن دراسة الطب طويلة مقارنة مع الشعب الأخرى، ولذلك يتعود الطلبة الأطباء العيش في المدن ويجدون صعوبة في الانتقال إلى البادية، لعدم وجود un cadre de vie أو شروط حياة اجتماعية لائقة.
ويستفحل الأمر أكثر بالنسبة للطبيبات اللواتي غالبا ما يتزوجن خلال الدراسة من رجال يعملون في المدن، وتجد هؤلاء الطبيبات صعوبة كبرى في مفارقة أزواجهن وأبنائهن للذهاب للعمل في الجبال والقرى حيث ينقلب نظام أسرهن رأسا على عقب.
وما لم يقله وزير الصحة هو أن أغلب الأطباء الذين يعملون بهذه المناطق النائبة لا يستقرون بها وغالبا ما يعمدون إلى تقاسم العمل في ما بينهم بالأسابيع،
وبالتالي فإن هذه المستوصفات وحتى المستشفيات تعمل بنصف عدد كوادرها غالبا.
والواقع أن هناك صورة نمطية عن الطبيب الذي يعمل في البادية تصوره كطبيب خارج التغطية غير مواكب، طبيب من الدرجة الثانية لأنه لا يتوفر على الوسائل، وبالتالي يتراجع مستواه العلمي بمرور الوقت.
لهذا أصبحت الغالبية الكبرى من الأطباء تفر من الطب العام ومن القطاع العمومي لأنه عبارة عن مقبرة تجعل الطبيب غائبا عن الوعي العلمي والطبي.
الطب تخصص يتغير، كل يوم تتغير طرق العلاج واستعمالات الأدوية ومع كل مؤتمر طبي هناك les nouvelles recommandations ، فإذا ذهبت إلى مستوصف ستجد طبيبا تخرج في الثمانينات مازال يعالج بطريقة الثمانينات التي تعتبر بدائية تماما كطريقة العطار إذا ما قورنت بالتغيير الذي حصل في الطب.
وفي فرنسا مثلا هناك ما يسمى les diplômes universitaires de formation médicale permanente des médecins généralistes والتي تمنح الطبيب تكوينا مستمرا لا يتوقف لتربطه بالجديد بالصحة.
ثم إن الأطباء يفضلون استكمال دراستهم في التخصص، كما أنه لحد اليوم لم تتم إعادة الاعتبار لدور الطبيب العام وطبيب العائلة الذي ينبغي أن يكون ممرا إجباريا قبل التوجه نحو الطبيب الاختصاصي، ولو كان ذلك في القطاع الخاص.
وعوض أن يلقي وزير الصحة باللائمة على الأطباء وحدهم عليه أن يعترف بأن وزارته ليست لديها سياسة ناجعة تهم التكوين المستمر لأطباء المناطق النائية، مما يجعل الأطباء يرفضون العمل في المستوصفات القروية مخافة أن يوضعوا في خانة النسيان الإداري، بل ونسيان حتى ما تعلموه في كليات الطب.
وفِي أحيان كثيرة تكون المشكلة هي مشكلة السكن، وهنا يجب أن نتساءل عن دور الجماعات المحلية في توفير مساكن للأطر الطبية والتمريضية عِوَض إهدار أموال دافعي الضرائب في اقتناء سيارات الخدمة الفارهة للرئيس ومستشاريه في جماعات لا تتوفر حتى على سيارة إسعاف.
والحل من أجل تشجيع الأطباء على الالتحاق للعمل بالعالم القروي هو تجهيز هذه المستوصفات تجهيزا كاملا في المستوى وضمان تكوين مستمر لهؤلاء الأطباء وانخراط الوزارات الأخرى في حل مشاكل الالتحاق بالأزواج .
وبالنسبة للأطباء الاختصاصيين يجب أن يعرف الطبيب المقبل على الاختصاص بالضبط المستشفى الذي سيعمل به بعد التخرج وليس فقط الجهة التي سيعمل بها، هكذا يتم انتقاء فقط من هم مستعدون للعمل هناك ولا تحدث مشاكل بعد التخرج.
وبالنسبة للعمل بالمستوصفات يجب أن يكون هناك تناوب بين الأطباء العامين بالإقليم على العمل فيها وفي المراكز الصحية والمستشفى الإقليمي، وبهذه الطريقة يظل كل الأطباء على صلة بكل درجات النظام الصحي ويظلون محافظين على الجاهزية والحماس، ملتزمين بالتطوير الذاتي الذي تفرضه هذه المهنة التي تتغير باستمرار.
إن الخوف من أن يصبح الطبيب متجاوزا هو الذي يمنعه من الذهاب إلى المستوصفات القروية وليس النقص في الوطنية، لذلك على الوزارة إبداع سيناريوهات وحلول تبرهن فيها عن حكامتها وحسن تدبيرها للرأسمال البشري لديها عِوَض تقديم أرقام وإحصائيات منزوعة من سياقات أسبابها ومسبباتها.