دعوة إلى ترشيد الصراع في مصر
الصراع السياسي الحاصل في مصر الآن لا يمكن أن يستمر بوتيرته الراهنة، وترشيده صار مطلبا ضروريا ومصيريا.
على عهدة جريدة «الشروق»، فإن مصادر إخوانية بارزة كشفت أن الشبان الهاربين إلى تركيا أصبحوا فريسة لعصابات تجنيد الأفراد للقتال في صفوف التنظيمات المتطرفة المسلحة في سوريا، خاصة تنظيمي الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة.
ومعظم هؤلاء الشبان ممن فروا من مصر قبل انتهاء دراستهم الجامعية، وهو ما أشعرهم بضياع مستقبلهم، خاصة في ظل تنازع قيادات الجماعة على السلطة داخلها، الأمر الذي زاد من أزمتهم وأفقدهم الأمل في الرجوع إلى مصر في وقت قريب لاستكمال دراساتهم، ذلك بالإضافة إلى ما أسمته المصادر الإخوانية كفر هؤلاء الشبان بالطرق السلمية في إدارة الصراع مع الدولة.
الفقرة السابقة مقتبسة من تقرير نشرته جريدة «الشروق» يوم الأحد الماضي، إذ أبرزته على صفحتها الأولى تحت العنوان التالي: أبناء قيادات إخوانية ينضمون إلى «داعش» سوريا.التقرير المنشور هو الأحدث في المتابعات التي انفردت بها جريدة «الشروق» في تغطية التطورات الداخلية في صفوف الجماعة، ويتمثل أبرزها في التنازع حول القيادة، بين من وصفوا بالقيادات التقليدية والتاريخية من ناحية وبين القيادات الشبابية التي خرجت من صفوف «الربعاويين» من ناحية أخرى.
والمصطلح منسوب إلى ميدان رابعة العدوية الذي شهد الاعتصام الشهير عام 2013، وكان ذلك جزءا من أزمة الجماعة التي تفاعلت على المستويات العليا، ولم تكن هي الأزمة الوحيدة، لأن مؤشرات التمرد والانشقاق ظهرت بشكل مواز في محيط القواعد.
وفي حين اهتمت الصحف المصرية بنشر أخبار انشقاقات الجماعة، فإن ذلك الاهتمام شمل التقرير الذي أصدرته الحكومة البريطانية وتولت فيه لجنة من مسؤوليها وخبرائها تقييم موقف الجماعة بتكليف من رئيس الوزراء ديفد كاميرون.حدث ذلك بشكل مواز مع الجهود التي يبذلها في مصر الحقوقيون وأسر المعتقلين، سواء لوقف الاختفاء القسري أو لإنقاذ نزلاء سجن العقرب وتوفير الأغطية والأدوية لهم.
لا سبيل للتحقق من صحة المعلومات المتعلقة بالتفاعلات الحاصلة داخل الجماعة، التي أبرزتها الصحف المصرية لأسباب مفهومة، لكنني أستطيع القول إن ما تحدثت به تلك التقارير لا يفاجئ أي باحث متابع للموضوع.
ذلك أن مآلات الصراع الحاصل في مصر ظلت موضوع دراسة ومناقشة طول الوقت في العديد من المراكز البحثية الخارجية المعنية بالشرق الأوسط؛ ففي حين ظل الخطاب في مصر تعبويا، ومعبرا عن وجهة نظر واحدة، انطلقت من أن الموضوع حُسم ولا محل للاجتهاد أو المناقشة فيه، فإن المراكز البحثية التي أتحدث عنها تعاملت مع الملف بوصفه مفتوحا وحافلا بالعناوين الجديرة بالمناقشة.
بكلام آخر، فإنه إذا كان الخطاب السياسي والإعلامي في مصر حصر أداءه في الحديث عن لحظة الصراع، فإن الباحثين اعتدوا بتداعياته ومستقبله. أتحدث مثلا عن الدراسة التي صدرت عن مركز كارنيجي للشرق الأوسط التي عنوانها «تصاعد التمرد الإسلامي في مصر»، وأعدها الباحثان مختار عوض ومصطفى هاشم. وأخرى صدرت عن «مبادرة الإصلاح العربي» بعنوان «الإخوان بعد الانتقال مسارات ومآلات»، لإبراهيم الهضيبي الذي نشر له موقع «مدى مصر» تحليلا كان عنوانه «الإخوان في مرحلة انتقالية».
وبحث آخر بعنوان «الخائفون من المستقبل داخل الإخوان» للباحث عمار فايد نشره موقع «رصد»، وبحث خامس نشره موقع مدى مصر عنوانه «العالم المجهول للجان التوعية – الطريق السريع من السلمية التنظيمية إلى العبوات الناسفة»، ويروي قصة شاب التحق بمظاهرات 25 يناير 2011، وانتهى مقتنعا بممارسة العنف واستخدام السلاح، وعازما على السفر إلى سوريا للالتحاق بتنظيم أحرار الشام.
إذا أتيح للمرء أن يطلع على تلك الأوراق فلن يفاجئه شيء مما تحدثت عنه الصحف هذه الأيام من تجاذبات وانشقاقات واختيار بعض الشباب المتمرد اللجوء إلى العنف المسلح في نهاية المطاف، بوصفه الخيار الوحيد الذي بات متاحا إزاء استمرار انسداد الأفق السياسي في مصر.
الملاحظة التي لا تقل أهمية أن أغلب تلك الأوراق لا تتحدث عن «مصالحة»، وتعدها غير مطروحة في الوقت الراهن، ولكنها تركز على ثلاثة أمور ضرورية، هي:
– لدى الطرفين مصلحة مشتركة في تحييد ما وصف بالتمرد الجهادي الذي يجذب الشباب اليائس إلى العنف المسلح، وتلك مهمة يتعين أن ينهض بها العقلاء على الجانبين، لأنها تمثل أهمية بالغة لتحقيق الاستقرار في الوطن.
– التهدئة وتجنب التصعيد من جانب السلطة في مواجهة النشطاء مهما كانت اتجاهاتهم السياسية، عن طريق وقف الاعتقالات العشوائية والاختفاء القسري، والكف عن ممارسة التعذيب، وإطلاق سراح المظلومين المحتجزين.
– التمييز بين مواقف جماعات الإسلام السياسي، وتجنب وصم الجميع ووضعهم في سلة واحدة مع تنظيم داعش أو جبهة النصرة، ذلك أن ثمة فروقا أساسية في الموقف من العنف والتكفير بين تلك الجماعات، فضلا عن أن الإصرار على ضم الجميع في وعاء واحد يصيب عناصر الاعتدال باليأس، بحيث يصبح الخيار الوحيد أمامها هو أن تنخرط في مسار العنف، ما دامت موصومة ومتهمة في كل الأحوال.
لا أعرف ما إذا كانت العمليات الإرهابية التي شهدتها مصر خلال السنتين الأخيرتين قد خضعت للتحليل والدراسة أم لا من جانب جهات الاختصاص في مصر، وسواء كان عدد المحتجزين في السجون أربعين ألفا كما هو متواتر في أوساط المنظمات الحقوقية أو ستين ألفا كما تقرر الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، فإن توفر هذا العدد الكبير يشكل فرصة ممتازة لدراسة مختلف جوانب الظاهرة للمساعدة في إنجاح جهود التعامل معها ووضع حد لها.عند الحد الأدنى فإن ذلك يتيح للأجهزة الأمنية أن تتعرف على حقيقة مواقف جماعات الإسلام السياسي ودور كل منها في العمليات الإرهابية التي وقعت، والأسباب التي دفعتها إلى ارتكابها.
كنت قد دعوت أكثر من مرة إلى ضرورة التمييز والفرز بين مواقف تلك الجماعات على الأقل، لكي يكون صاحب القرار السياسي -فضلا عن الجهاز الأمني- على بصيرة وبينة من مواقف مختلف الأطراف التي تقف على الجانب الآخر في الصراع.
ولاحظت أن الإسرائيليين اتبعوا ذلك النهج في تعاملهم مع انتفاضة السكاكين التي انطلقت في أكتوبر الماضي، فطرحوا السؤالين الكبيرين: من أين جاء هؤلاء الشبان الذين أصبحوا يتنافسون على طعن المستوطنين بالسكاكين؟ ولماذا؟ وكانت المفاجأة التي أدهشتهم أنهم اكتشفوا في الأسابيع الأولى أن أولئك الشبان لا علاقة لهم بفصائل المقاومة المعروفة، حماس أو الجهاد أو الجبهة الشعبية، أو أي كيان فلسطيني آخر.
وفى تقرير من الأراضي المحتلة نشره موقع رأي اليوم (في 17-12) أن المصادر الأمنية في تل أبيب أدركت أن منفذي العمليات أقدموا على ما فعلوه بناء على دوافع ذاتية لا علاقة لها بأي تنظيم، وفي حالات نادرة كان للمنفذ شريك آخر.
وفي حالات قليلة تبين أن بعض المنفذين كانت لهم انتماءات تنظيمية سابقة، ومن هؤلاء من كانت لهم سوابق أمنية، وفي كل الحالات لم يثبت أن ما نُفّذ من عمليات انبنى على قرار أو انطلق من الانتماء التنظيمي، باستثناء حالة طعن واحدة وقعت قرب نابلس.
وذكرت صحيفة «هآرتس» أن تلك كانت خلاصة دراسة شملت 123 فلسطينيا قاموا بتنفيذ عمليات الطعن أو حاولوا ذلك.ومما توصلت إليه الدراسة أيضا أن ما يسمى التحريض عبر الإنترنت لم يكن بالضرورة عاملا أساسيا في اتخاذ المنفذ قراره بالعملية، كما أدرك الباحثون أنه في أغلب الحالات فإن المنفذين كانوا يعملون وحدهم ويبلورون قرارهم النهائي في مدة قصيرة نسبيا، وأحيانا في أقل من ساعة.
أثار انتباهي في هذا الصدد تحليل كتبه المثقف الفلسطيني البارز الدكتور أسعد عبد الرحمن تحدث فيه عن وثيقة أعدها جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) حذر فيها الحكومة من سياسة التصعيد ضد الفلسطينيين. وذكرت الوثيقة أن التصعيد سوف يشجع الفلسطينيين على مواصلة الانتفاضة، ذلك أن تحركهم نابع من الشعور بالاضطهاد الوطني والاقتصادي والشخصي، مضيفة أنه حتى إذا تم القضاء على «الهبّة» الراهنة فإنها ستعود وتتصاعد مجددا، لأن الأسباب التي تدفع الفلسطينيين لا تزال مستمرة، وهي تكمن في شعورهم بالإحباط واليأس، وخيبة الأمل في السلطة الفلسطينية والرغبة في مواجهة إسرائيل (الاحتلال).
ذكر الدكتور أسعد عبد الرحمن أيضا أن رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء هرتسي هليفي أبلغ حكومته أن «أحد أسباب الإرهاب الحالي هو الشعور بالغضب والإحباط لدى الفلسطينيين خاصة بين أبناء الجيل الشاب الذين يشعرون بأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه».ولم تكن تلك هي الشهادة الوحيدة، لأنه استشهد بعدة تعليقات أخرى لخبراء أمنيين وقادة عسكريين نصحوا الحكومة بأن تعمل على إعطاء الفلسطينيين «العمل والاحترام»، وتوفر التسهيلات لهم في المجالات الأمنية والاقتصادية والمدنية، تشمل الإفراج عن بضع عشرات من الأسرى المحتجزين في السجون؛ وذلك لتهدئة الفلسطينيين وامتصاص غضبهم الذي يترجم إلى أعمال عنف تروع الإسرائيليين بين الحين والآخر.
أهمية هذا النمط من التفكير تكمن في أنه يدعو إلى عقلنة الصراع، بحيث لا تكتفي السلطة بالإجراءات الأمنية المتصلة بمعاقبة الغاضبين الذين يلجؤون إلى العنف، وإنما تحاول أيضا أن تتعرف على دوافع العنف والغضب، وأن تخفف من أسبابها.
ربما لاحظت أنني لا أتحدث عن إنهاء الصراع، لكنني أتحدث عن ترشيده؛ ذلك أننا لا نريد أن نعالج ما هو سيئ بما هو أسوأ، والأسوأ الذي أحذر منه أن تتواصل الضغوط ويخيم انسداد الأفق، إلى الحد الذي يقنع الطرف الآخر بأن الانفجار والانتحار هو الحل.
وأخشى ما أخشاه أن نطبق على المعارك السياسية منطق المواجهات العسكرية؛ ذلك أن فكرة الإبادة إذا كانت واردة في المواجهات الأخيرة، فإنها تصبح مغامرة خطرة ولها عواقبها الوخيمة في المعارك السياسية.
وأزعم أن أداء الأجهزة الأمنية المصرية في ثمانينيات القرن الماضي كان أكثر رشدا، لأنها رغم قسوتها المفرطة آنذاك حرصت على التمييز بين جماعات الإسلام السياسي، وعملت على تحييد بعضها، وحققت بذلك نجاحات نسبية مشهودة. والمشكلة التي تواجهها مصر الآن أن السياسة تدار فيها بأساليب الحروب بين الدول، وهو النهج الذي لم يحقق نجاحا، حيث صار في أمس الحاجة إلى المراجعة.