دستور أفغانستان والهراء السوري
ياسر أبو هلالة
ليس مطلوبا من حركة طالبان أكثر من العودة إلى الدستور الملكي. ولعل تلك الخطوة المفاجئة تختصر كثيرا من الوقت الضائع في تشكيل لجان دستورية وآليات عمل وتدخلات دولية وإقليمية، وتمكن الأفغان من بناء دولتهم التي لم يتوقف هدمها، منذ انقلاب ابن عم الملك ظاهر شاه على الدستور عام 1973.
قبل تمكن طالبان وانتصارها، كتبت مرارا أن أول التطرف والإرهاب ولد من رحم ذلك الانقلاب الذي دمر عقدا من الحياة الديموقراطية التي تحترم الدين والقيم والهوية، في إطار تعددية تستوعب الانقسامات السياسية والعرقية والمذهبية. وكانت البلاد تسير قدما لولا مراهقة اليسار، الذي انقلب وجلب احتلال السوفيات للحفاظ على انقلابه.
للتذكير، الجهاد الأفغاني لم يكن داعش ولا القاعدة. كانت الحركة الإسلامية الأفغانية، بشقيها البشتوني (غلب الدين حكمتيار) والطاجيكي (برهان الدين رباني وأحمد شاه مسعود) منخرطة في الحياة المدنية، ولا علاقة لها بالسلاح. كان اللدودان حكمتيار ومسعود طالبين في كلية الهندسة، ولولا الاحتلال لكان دورهما في المقاولات والبناء لا في القتال.
العودة إلى دستور الملك تضع أفغانستان على الطريق الصحيح، وهي تشكل تنازلا كبيرا من «طالبان»، وبداية يُبنى عليها. قبل انتصار «طالبان»، في أبريل الماضي، كتب عمران فيروز، وهو كاتب ليبرالي وصحافي مستقل ومؤلف، في مجلة «فورن بولسي»: «كانت فترة عشر سنوات بدأت في عام 1963، عندما أطلق الملك آنذاك، محمد ظاهر شاه، مشروعا ديمقراطيا، حيث وضع دستورا جديدا جذريا، منح شعبه حرية الفكر والتعبير والتجمع، مع الحد من سلطات عائلته المالكة. لأول مرة في تاريخ أفغانستان، ستختار الانتخابات أعضاء البرلمان الحديث، وبدأ المجال السياسي للبلاد يتغير بشكل كبير». وخلص الكاتب إلى «أن هدفنا هو العودة إلى هذا العصر».
لم تنقلب حركة طالبان على دستور الملك. انقلبت على دستور المجاهدين وحكومتهم التي كان يتزعمها رباني، والغزو الأمريكي أعاد رباني رئيسا. وهي اليوم، بالعودة إلى الدستور، تعود إلى اللحظة الوطنية الأفغانية، بعيدا عن الإملاء الخارجي أو هيمنة طرف داخلي.
حسنا، هذا ما فعلته «طالبان»، فماذا فعل «المجتمع الدولي» في سوريا؟ آخر الهراء هو جولة سادسة من مفاوضات اللجنة الدستورية التي تعيد اكتشاف العجلة. سوريا لم تؤسسها عائلة الأسد، بل انقلبت هذه العائلة على الدستور الذي كتبته نخبة سورية عام 1950، والتي كانت تتسع لكل الأطياف والطوائف. كانت الانتخابات السورية تجمع الشيوعي والإخواني والبعثي والليبرالي. يكفي أن زوجة فارس الخوري، كما يوثق أكرم الحوراني في مذكراته، كانت رئيسة اللجنة النسائية للمرشح مصطفى السباعي، المراقب العام للإخوان المسلمين، والذي شارك في صياغة الدستور السوري. هذه سوريا بقادتها ودستورها وتياراتها، وليست سوريا التي يعدل دستورها بدقائق على مقاس الديكتاتور الصغير وريثا لوالده الانقلابي.
المؤسف أن الدستور السوري الموعود يجري تفصيله على مقاس أرذل مرحلة في تاريخ سوريا، مرحلة التفكك وتفسخ المجتمع والدولة، دستور «البعث» الذي جاء به حافظ الأسد، ونص على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع، واحتكر الحياة السياسية وتفرد بالدولة، ولم يكتف بتدمير الحياة السياسية، بل أيضا منع أي محاولة لبنائها مجددا، وبلغ الأمر بالديكتاتور الوريث بشار الأسد في بداية عهده أن منع المنتديات!
تظل ديكتاتورية آل الأسد أهون من مرحلة التفسخ والتفكك التي آلت إليها البلاد، بعد هزيمة الثورة عسكريا والاحتلالات والإرهاب. يُراد لسوريا، في دستورها الموعود، أن تقسم إلى أدنى شظية تناثرتها، ركام من هويات فرعية طائفية وعرقية ومناطق وجهوية. على سبيل المثال، لم تكن الهوية الكردية مطروحة في سوريا. الرئيس أديب الشيشكلي كان كرديا، محمد كرد علي، مؤسس مجمع اللغة العربية، كردي، غالبية رجال الإفتاء والعلماء أكراد. كانت الهوية الكردية، في كل الأحزاب، جزءا من الهوية الوطنية السورية. ديموغرافيا أكراد سوريا جزء أصيل من مدينة دمشق، ولا يتمايزون عن أبنائها. في الجزيرة السورية، ظلت المصاهرة مع القبائل العربية عادة لم تتوقف. العقال العربي وليس العمامة الكردية في لباس الكردي في بعض العشائر.
ذلك الإرث من الانتماء الوطني يبدد لصالح متطرفي حزب العمال الكردستاني وسلالاته، وهم حزب منبوذ كرديا على مستوى ثقافي واجتماعي وسياسي، كل ميزته اليوم أنه عميل للمخابرات الأمريكية، وينفذ مهامها بأبخس الأثمان. مقابل ذلك يحرص الأمريكيون على تحقيق الانفصال الكردي دستوريا. في المقابل، تضخم تركيا الهوية التركمانية نكاية بالأكراد، وإيران تضخم العلويين والشيعة، وهكذا تفكك الدولة باسم الدستور.
سيندم المجتمع الدولي على ترك سوريا لوحش مسنود باحتلالين، روسي وإيراني، والجولة السادسة ليست لصياغة دستور، وإنما هي تغطية على المجرم الذي دمر البلاد كيانا وإنسانا. سوريا موجودة، ودستورها موجود، وشرط تحقق ذلك هو خروج المنقلبين على الدستور. وإذا استمر هذا الهراء فلا يُستبعد أن يتكرر السيناريو الأفغاني.