شوف تشوف

الرأي

دروس المونديال

شامة درشول 

 

 

لا أحب الكرة، ولم أحبها يوما، لكن أحب متابعة وتتبع قدرتها على الجمع بين السياسة والاقتصاد، وقدرتها على أن تكون مرآة ليس فقط لأنفسنا ومجتمعاتنا، بل أيضا للحياة.

«الحياة.. صالة كبيرة للقمار، لا اختيار لديك إلا أن تلعب، قد تخسر، وخسارتك لن تكون دائمة، وقد تربح، وربحك لن يكون على مدى الدهر، أما إن اخترت ألا تلعب، فقد اخترت ألا تعيش». كذلك الكرة، تعلمنا أن الحياة قائمة على خسارة وربح، الربح قد يكون لبضع دقائق، لبضعة شهور، لبضع سنوات، لكنه لن يكون ربحا دائما. فالخصم الذي هزمته سيعود ليحاول أن يرديك خاسرا، ويسحب منك متعة الفوز.

دروس كثيرة تعلمها لنا كرة القدم، ودروس كثيرة يعلمها لنا مونديال الحياة، هذه المرة الدروس عقدت في موسكو، وأول درس هو كيف تصالح روسيا العالم من خلال المونديال، وكيف تصلح روسيا صورتها أمام العالم.

في مطار فرنكفورت وأنا أنتظر الطائرة إلى باريس ليلة المونديال، كانت المراسلة التي أطلت على شاشة علقت بأحد أركان المطار تقول إن روسيا بلد غير معروف بعشقه للكرة، ومع ذلك هو ينظم المونديال ليقول للعالم: تعالوا إلينا، وتعرفوا على ما لدينا من ثقافة.

هذا درس آخر علينا تعلمه من مونديال موسكو، وهو أن الكرة ليست فقط قطعة مدورة يتخاطفها فريقان وبينهما مشجعون، وعلى اللعبة أن تنتهي بخاسر أو رابح، بل هو مناسبة للترويج لثقافة البلد المضيف، والتعريف به، حتى إن انتهى المونديال، ترسخ اسمه في ذاكرة مواطني العالم، وبات واحدا من الوجهات السياحية التي يخطط لزيارتها، ولنا في دولة قطر نموذج. فالعالم كان يجهل تواجد دولة اسمها قطر على الخريطة، وبعد أن عرفها البعض عن طريق الإعلام في جلباب قناة «الجزيرة»، بات يعرفها من تبقى من العالم عن طريق مونديال كرة القدم. فالمونديال واحد من الوسائل ليس فقط لتنمية وتطوير البلد، بل أيضا لتحسين صورته وموقعه في العالم، وإبرازه أو ترسيخ مكانته في خريطة العالم، وذلك ليس فقط من خلال بنيات تحتية قوية، بل أيضا من خلال الترويج لثقافة البلد المضيف. فالجماهير لن تمضي كل وقتها في الملاعب، وستكون بحاجة للترفيه، ولاكتشاف ثقافة البلد المضيف، وهذا الاكتشاف لا تضمنه فقط بنيات تحتية جيدة، وملاعب فخمة وفنادق، ووسائل المواصلات، وشبكات التواصل، بل أيضا توفير الأمن والأمان، واحترام الاختلاف، وأن القادمين إلى أرضنا ليسوا بالضرورة يشبهوننا.

هذا درس آخر على المغرب والمغاربة أن يتعلموه إن هم أرادوا بلدا ديمقراطيا، فالديمقراطية لا تنحصر فقط في صناديق اقتراع تخرج لنا إسلاميين يقولون لنا إن الديمقراطية اختارتهم وعلينا التزام الصمت. الديمقراطية ترتبط بالحرية، والحرية ترتبط باحترام الآخر، فهل نحن مستعدون لهذا؟ وهل يأخذ المعدون لملف المونديال هذا الأمر بعين الاعتبار؟ وهل يأخذون بمحمل الجد أن المونديال ليس فقط كرة، ولا فقط ترويجا للبلد وثقافته، بل أيضا أرضا قادرة على استقبال كل مواطني العالم باختلاف أديانهم، وأجناسهم ومعتقداتهم، وحتى ميولاتهم الجنسية.

لن تستطيع منع الجمهور من الاحتفال على أرضك بسكب «البيرة» على جسمه في الشارع، ولن تستطيع منع ثنائي من تبادل القبلات في الشارع، ولن تستطيع منع النساء من الخروج إلى الشارع بتنانير قصيرة جدا، ولن تستطيع منع رجلين من تبادل العناق علنا، ولن تستطيع منع الرقص في الشارع، ولن تستطيع منع رجال من مرافقة نساء إلى الفنادق، ولن تستطيع الرد بأن المنع يسري فقط إن كان أحد الشريكين حاملا للجنسية المغربية، وأن المنع لا يسري على الأجانب، ولن تستطيع منع مواطن من حمل العلم الإسرائيلي في شوارع بلدك، لن تقدر على فعل أشياء كثيرة تبيح لنفسك فعلها على أرض وطنك باسم الدين، وتسمح لنفسك بتطبيق «شرع اليد»، فالمونديال هو احتفال مواطني العالم بالكرة، وعليك أن تتعلم أنك جزء من هذا العالم، ولست كل العالم.

فهل شعبنا ومجتمعنا مستعد بما يكفي لاستقبال هذا العالم على أرضه وتقبل اختلافه عنا؟ وهل يأخذ الحريصون على تقديم مقترح تنظيم المونديال هذا المعطى بعين الاعتبار؟

درس آخر على المغرب تعلمه من المونديال، هو هذه الروح التي بعثت في المغاربة وجعلتهم يشعرون بالفخر بوطنهم لأنهم افتخروا بفريق رأوا، رغم هزيمته، أنه فريق شجاع، قوي، منح كل ما لديه، وخرج من المونديال برأس مرفوعة، سامحوا فيه مخطئا كبيرا هو «بوحدوز»، ومجدوا فيه بطلا هو «امرابط» غامر بوضعه الصحي من أجل المغرب والمغاربة، افتخروا فيه بجمهور انتقل إلى حيث المنتخب من أجل دعم رمز الوطن، حملوا الرايات، ورددوا النشيد، وهتفوا من أجل الوطن. هو درس لصناع القرار في هذا البلد، أن هذا البلد آمن وسيظل آمنا مادام فيه وعليه شعب يريد وطنا أقوى وأجمل يتباهى به أمام باقي الأوطان. وهو درس للمغاربة، أن هذا الوطن يستحق منا المزيد من الصبر ليكون وطنا نغفر له خطاياه، ونشكره على ما قدمه لنا، ونقول له كما قلنا للمنتخب: «فريق قوي ينتظره مستقبل جيد».

درس آخر علينا تعلمه من المونديال وهو في بدايته، أن القوي لا يظل قويا، والضعيف لا يظل ضعيفا، وأن إيطاليا وهولندا لم تتأهلا لمونديال هذه السنة، وأن ألمانيا التي هزمت البرازيل القوية بـ7 أهداف، انهزمت أمام المكسيك. هي دورة الحياة كما قال يوما ابن خلدون، كل امرئ منا له دورة حياة، وكذلك الدول، وكذلك المنتخبات.

الدرس ما قبل الأخير هو كيف احتفل العالم بتصرف اليابان، حيث قام المشجعون بتنظيف الملعب بعد انتهاء مقابلة فريقهم، كذلك فعل جمهور السينغال وتونس، المونديال فرصة أيضا ليس فقط لاكتشاف ثقافة البلد المضيف، بل أيضا للتعرف على ثقافات باقي شعوب العالم، والتعلم منها، وأيضا تعريفها بثقافاتنا وقيمنا، ولا يمكن أن نقوم بهذا ونحن نجهل الكثير عن جغرافية وتاريخ، وشخصيات وثقافة بلدنا. لذلك المونديال فرصة أمامنا للتعرف أولا على أنفسنا، قبل أن نعرف بأنفسنا للآخر، وقبل أن نسعى للتعرف عليه والتعلم منه.

الدرس الأخير هو أن يتعلم القائمون على هذا البلد من الجدل الذي أثير بالمغرب حول سفر برلمانيين وفنانين على نفقة الشعب، من الجدل الحاد الذي أثير في مصر بسبب سفر أعلام ونجوم الشاشة من مذيعين وفنانين، رجاء، البرلمانيون مكانهم البرلمان، والفنانون مكانهم التلفزيون، والسينما والمسرح. وأقتبس هنا ردا من مواطن مصري على الممثل شريف منير الذي غضب من وصف الفنانين بـ«المطبلاتية»، ودافع عن مرافقته اللاعبين من أجل دعمهم، فقال له: «وهل لاعبو كرة القدم من المشاهير يحضرون مهرجاناتكم من أجل دعمكم للحصول على جوائز؟»!!.

هذا درس على من يرون أنفسهم فنانين تعلمه، وتعلم أن هذا الشعب لا يتقبل فنانا خارج شاشة التلفزيون، ولن يتقبل برلمانيا خارج البرلمان، كما لم يتقبل وزيرا وسط المتظاهرين، لكل كلام مقام، ولكل مقام رجاله ونساؤه.

الشكر الجزيل لمنتخب المغرب أنه منح المغاربة فرجة ممتعة، أبانت عن احترام لاعبي الكرة للمغاربة، لعلها تذيب هذا الكم الاحتقار والحموضة والإسفاف الذي يصر مرتزقة الفن على إظهاره كل سنة، ومن «فلوس الشعب»، وبتواطؤ غريب ضد الشعب، ممن يعتبرون أنفسهم «فناني الشعب».

شكرا للمنتخب…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى