بقلم: خالص جلبي
كتب جان جاك روسو كتابه «الاعترافات»، فكان تحفة أدبية. وكتب عابد الجابري «حفريات في الذاكرة»، فكان لوحة فلسفية. وكتب غاندي بحثه عن «الحقيقة»، فكان اعترافات في غاية الصراحة والجمال. وكتب برتراند راسل «سيرته الذاتية»، فكانت معادلات في التفاضل والتكامل. وكتب حسن البنا «مذكرات الدعوة والداعية»، فعرفنا كيف نشأت حركة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية بمصر عام 1928م، عند قناة السويس والوجود البريطاني. وكتب إدوارد سعيد مذكراته «خارج المكان»، فعرفنا نشأته في مصر ودراسته في أمريكا، وكيف تمنى أن يكون والده صوره وأخوته على نحو عفوي. وقرأنا للمسيري مذكراته، فكانت سيلا من أفكار التنظير أكثر منها حوادث شخصية. وعرفنا أحزان البدوي في سيرته وهو يتذكر عشيقاته السابقات، بعدما تقدمت به السن وكيف تعلم اللغات من عشرتهن.. وفي كتاب «كفاحي» لهتلر يقرأ المرء أشياء عجيبة عن نشأة الحزب النازي، وكيف بدأ بانقلاب مسلح كاد أن يهلك فيه هتلر، ولكن الصدفة حملته بعد ذلك أن ينجح ديموقراطيا فيهدم الديموقراطية ومعها العالم. وفي مذكرات فيرنر هايزنبيرغ نقرأ فصلا مهما عن تصرف الأفراد حيال الكارثة السياسية، وهو يؤرخ للحرب الكونية عام 1939م.
ولا يملك الإنسان دموعه وآهاته مع قصة آخر الراحلين لفناء شعب قفقاسي على يد الروس، وهو يذكرنا بهجوم بوتين الحالي على أوكرانيا. أما مذكرات عالم النفس فيكتور فرانكل في روايته «الإنسان يبحث عن المعنى»، فيتركك في مواجهة نفسك تبحث فعلا عن معنى الحياة والوجود؛ فالرجل خسر أعز إنسان عليه زوجته في معسكرات الاعتقال النازية في «أوشفيتز Auschwitz». وفي رواية تزفيتان تودوروف «اكتشاف أمريكا مسألة الآخر»، فأنت في صدمة عاطفية لمدة اسبوعين.
وأجمل ما يفعله المرء مواجهة النفس، فينساب القلم بفيض الذكرى، والأيام المزعجة العصيبة. واللحظات البريئة عندما يمضي معظم العمر، وهو ما أعيشه حاليا بعدما مضى ثلاثة أرباع حياتي، ولم يبق إلا الربع، وفي حالة انحطاط. فلم نعد شبابا، ولم تبق من الشباب والطفولة إلا صور باهتة. ومن أصعب الأشياء على النفس الاعتراف بالفشل، فضلا عن ذكره، ولكن الاعتراف بالخطأ فضيلة، ولكنه قيمة نظرية، ومن يمارسه يجب أن يصل إلى مرحلة عالية من النضج، وقدرة على النقد الذاتي، ولا شيء يسكر النفس كذكريات النجاح ومحطات التحقق، ولا أغم على القلب من لحظات الخيبة. وأن نفتح هذا الباب فهو تحد من نوع خاص، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، والتحدي فيها أن الشخص يقوم بفتح ملفه الخاص، وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وأنا أعترف بالحذق والحكمة لمن يطرح مثل هذا السؤال؛ فيهيج هذا المعنى الخفي المؤلم العالم القديم الذي تلاشى، ويحرض الذاكرة التي امتدت عقودا على مراسي ومواقع لا تمحى من رمال الزمن على طول العمر، وتقوم النفس بفتح ملفات قديمة علاها الغابر، ونكء جروح اندملت.
عندما وصل أديسون إلى إضاءة العالم بالمصباح الكهربائي، كان قد فشل في خمسة آلاف تجربة، ولما سئل عن هذه التجارب الفاشلة قال: في الواقع لم تكن تجارب فاشلة، بل كانت تجارب اكتشفت فيها أنها لا تعمل. ومن وصل لمعالجة مرض الزهري الإفرنجي (Syphilis) نجح في التجربة 606، فأطلق على الدواء الرقم 606. وفي الواقع فإن كثيرا من الأعمال الجانبية التي نعتبرها فاشلة تكون مفتاحا لتغيرات مصيرية، وتفضي إلى كشوفات في غاية الإثارة، ولعل تقدم العلم كله تم بهذه الطريقة، والأسرار الستة في التقدم العلمي هي: 1ـ ضربة حظ جانبية.
2ـ صدفة لم تكن على البال.
3ـ الجهد المتتابع.
4- القاعدة العلمية.
5- روح العصر.
6ـ المال.
هكذا تم اكتشاف مادة التيفال في أواني المطبخ، التي لا يلتصق بها الطعام، وحبوب الفياغرا التي حلت مشكلة تاريخية للرجال منذ أيام حمورابي، للذين يعانون من العنة وضعف الانتصاب، وكان بالأصل تجارب لاكتشاف مادة تفيد في علاج آفات القلب، فتبين أنها قد تقتل المعتلين بأمراض القلب، ولكنها تروي الحوض، وتحل مشكلة جنسية استعصت على الباحثين آلاف السنين. ولم تكشفها سوى الصدفة والعمل الجانبي والتجارب الفاشلة.
وفي حياتي، أتذكر أياما صعبة ولحظات نحسات سوداء، ولكنها في الواقع دروس جيدة في تنبيه الإنسان على اعتبارات: أن الإنسان مكون من مخططات ارتفاع وانخفاض، ومحطات هبوط وعلو، وانتعاش وانتكاس، وسعادة ويأس وبؤس، فهذه واحدة. وأن يتعلم الإنسان التواضع ثانيا؛ فليس هناك من كامل إلا الكامل جل جلاله. وأن دروس الفشل مفيدة في إحداث الألم لإيقاظ الوعي، ولولا الألم الذي عانى منه غاندي حينما ألقي من القطار في جنوب إفريقيا في تلك الليلة الباردة، ما خرج علينا بنظرية اللاعنف في الكفاح السلمي، فالألم مقدس ومفيد وموقظ وشاحذ للوعي ومنير سبيل المؤمنين، ولقد خلقنا الإنسان في كبد. وإشعال زناد التنبيه بالألم يجعل الفرد متيقظا يحسب حساب الصغائر قبل الكبائر، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وحريق غابة لا يحتاج إلى أكثر من عود ثقاب، والأمور التافهة ليست تافهة، وكل عملية يدخلها الجراح يجب أن لا يسميها صغيرة قبل الخروج منها، وبعوضة أدمت مقلة الأسد.
نافذة:
إن كثيرا من الأعمال الجانبية التي نعتبرها فاشلة تكون مفتاحا لتغيرات مصيرية وتفضي إلى كشوفات في غاية الإثارة ولعل تقدم العلم كله تم بهذه الطريقة