شوف تشوف

الرأيمجتمع

درس من عُمق الأرض

 

 

يونس جنوحي

كانت ليلة تحبس الأنفاس. أول أمس، عشنا جميعا أحد أصعب الامتحانات الجماعية. معركة من المعارك التي لا تعلق فيها النتيجة في ظهر الغيب. معركة لا تُربح كاملة ولا تُخسر كاملة كذلك.

وصل المنقذون عبر النفق الأرضي إلى الطفل ريان، لكن الفرحة لم تكتمل، وهذا قدر الله الذي لا يقابل بغير التسليم، وانتقلت روحه إلى السماء تاركا خلفه ملايين الناس في حالة حزن.

مات الطفل ريان، الذي صار أيقونة عالمية. من أجل سواد عينيه، عمل رجال الإنقاذ ليالي وأياما متصلة ببعضها، لإزاحة أطنان من الأتربة للوصول إليه أفقيا في قعر البئر.

فرق إنقاذ حول العالم عاشت تجارب مماثلة، لكن رجال الإنقاذ المحليين، بالإضافة إلى عشرات الحفارين من مختلف أنحاء المغرب وضعوا خبرتهم التي راكموها طيلة عقود من أجل اقتراح حلول لانتشال الطفل من البئر التي لم يكن قطرها يتعدى ثلاثين سنتيمترا تضيق كلما اتجهت نحو الأسفل.

درس مهم خرجنا به من هذه المحنة، مفاده أننا يجب أن نستثمر في القطاع العام. تخيلوا لو أن أسرة ريان لم تحظ بالعناية الملكية وهذا الحشد الإعلامي المحلي والدولي، ومتابعة مسؤولين من عين المكان لعملية الإنقاذ، ماذا كان سيقع؟

سيكون على المحسنين جمع التبرعات للاستعانة بشركة خاصة للحفر. سيضربونك في الأخير بفاتورة تضع تسعيرة بالسنتيمتر لعملية الحفر، وفواتير أخرى فلكية لمواد سيقولون لك إنهم اضطروا لاستعمالها في الحفر وإنقاذ الطفل وليس لك الحق نهائيا في مناقشة التفاصيل. هذا ما يقع بالضبط يوميا في المستشفيات الخاصة التي يلجأ إليها المواطنون. وهناك سياسيون طعنوا القطاع العام في الظهر، وشجعوا الناس على التوجه صوب المصحات الخاصة، بل والخدمات الخاصة في كل القطاعات الحيوية وعلى رأسها التعليم.

ماذا لو نفذنا ما كان يدعو إليه رئيس حكومة سابق هو عبد الإله بن كيران، عندما أعلن صلاة الجنازة على القطاع العام، ودعا المغاربة جميعا إلى التوجه نحو الخواص وحكّ جيوبهم قبل التفكير في الاستفادة من خدمة عمومية حتى لو كانت حقا دستوريا مثل التعليم والتطبيب.

والدا الطفل ريان، وهما مواطنان مغربيان طيبان مثل ملايين المغاربة الذين يعيشون على الجانب الآمن من خط السير اليومي في السعي من أجل الخبز، لا يخرجان من جماعة المغاربة الذين لا يستطيعون توفير مصاريف القطاع الخاص لا للتطبيب ولا لتعليم أبنائهم. وهذه هي الشريحة التي أرسلتها الحكومات إلى انتظار الموت عندما تم اقتراح التخلي عن القطاع العمومي.

الحمد لله أن الحفارين كانوا من أبناء الشعب، وليسوا من الشركات الخاصة التي لن تتردد في بيع الأوكسجين للمغاربة إن اقتضى الأمر، إذ لو تم تأسيس شركات خاصة للإنقاذ لكانت النهاية أكثر إيلاما.

ما وقع طيلة الأيام الخمسة الماضية، يجعلنا نفكر جديا في إعادة الاعتبار إلى القطاع العمومي. روح الوطنية التي أنعشتها واقعة انتشال الطفل ريان رحمه الله من قعر البئر، وروح التضامن التي أبداها المغاربة داخل المغرب وخارجه ومعهم ملايين من جنسيات أخرى، ليست إلا تأكيدا على أن الوضع قابل للإصلاح وأننا لم نصل بعد مرحلة الموت السريري التي لا يُرجى منها شفاء.

نظرة الرجل الذي كان يترأس عملية الحفر اليدوي في الأسفل، والذي راج أن اسمه “العم علي”، تقول كل شيء. نظرة رجل مغربي بسيط لم يسبق لأحد أن عرفه أو اهتم به، قضى شبابه تحت الأرض وصار يعرف التراب والتراب يعرفه، ومثله عشرات آلاف المغاربة الأبطال الذين يعيشون بيننا، ونصادفهم كل يوم، ولا نعيرهم أي اهتمام.

رحم الله الطفل ريان، ورزق والديه الصبر والسلوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى