شوف تشوف

الرأي

درس كيسنجر لبايدن

 

مقالات ذات صلة

نديم قطيش

انتهت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي. وسلك ما يسمى «الصراع العربي – الإسرائيلي» مسارات معقدة، منذ اتفاقات وقف إطلاق النار بين كل من سوريا ومصر من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، في أعقاب حرب 1973، وصولا إلى الاتفاق الإبراهيمي بين الإمارات (والبحرين والسودان والمغرب) وإسرائيل، مرورا بالطبع باتفاق أوسلو الرئيسي بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.

إنه شرق أوسط مختلف تماما عن ذاك الذي بنى مداميكه الأساسية هنري كيسنجر، خلال توليه منصب مستشار الأمن القومي، ثم المستشار ووزير الخارجية معا بين عامي 1969 و1977، مع الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وفحواه العلاقة الأمريكية الخاصة بإسرائيل، والشراكات الوثيقة مع قوى الاستقرار بين دول المنطقة.

مناسبة العودة إلى كيسنجر، كتاب صدر حديثا للدبلوماسي الأمريكي مارتن إنديك، عن الدبلوماسي والسياسي والمنظر الأسطورة، الذي صعد سلالم الترقي في أمريكا بسرعات خرافية، هو اللاجئ إلى العالم الجديد من جحيم الهولوكوست بألمانيا، حيث فقد أكثر من عشرة أقارب مباشرين له، في أفران أدولف هتلر.

ما يمنح كتاب إنديك فرادته بين عشرات الكتب ومئات الدراسات التي كتبت عن كيسنجر، أنه مخصص بشكل حصري لدبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط، كآلية معقدة لصيانة الاستقرار. فالاستقرار، بحسب إنديك، هو أولوية العقل الكيسنجري الذي كان يرى السلام كمشكلة بطبيعته. ويلفت إنديك إلى أن شكوك كيسنجر حول القيمة السياسية العملية لفكرة السلام كقيمة مثالية، رافقت تفكيره منذ بدايات نضوجه الفكري والثقافي، كما يوحي بذلك العنوان الفرعي لأطروحة الدكتوراه خاصته وهي أول كتبه المطبوعة، إذا يقرأ العنوان التالي:

عالم مستعاد: مترنيخ وكاستلري، ومشاكل السلام 1812- 1822.

كان السلام مشكلة، في عقل كيسنجر، الذي انحاز دوما إلى «عملية السلام وليس السلام»، كآلية لصيانة الاستقرار.

اكتفى كيسنجر بعد حرب 1973 بتوقيع اتفاقات تمهيدية، اثنان بين مصر وإسرائيل وواحد بين سوريا وإسرائيل، ولم يستعجل الوصول إلى اتفاقات سلام شاملة تعالج كل قضايا الخلاف. ولأجل ذلك، يكشف كتاب إنديك، كيف أن الدبلوماسي الأسطورة أدار، بنجاح وفشل متفاوتين، لعبة التوازن بين الجيشين المصري والإسرائيلي، للوصول إلى توازن عسكري ميداني يسمح للطرفين بدخول عملية سلام بحد معقول من الكرامة الوطنية، وبحد أكثر معقولية من المصالح المشتركة، والولوج من ذلك إلى بناء شرق أوسط جديد مناسب لواشنطن ومزعج لروسيا.

ويُلمح إنديك في أكثر من موقع في كتابه، إلى أن كيسنجر هو من أوحى بطريقة غير مباشرة للسادات بأن الحرب هي وسيلته الوحيدة لجذب انتباه واشنطن، وإعادة «توريطها» في ملف الشرق الأوسط. وهذا تلميح تعززه ملاحظات لإنديك، تفيد بأن حرب 1973 كانت أساسية لتفعيل نظريات كيسنجر عن التوازن والاستقرار.

حجم الاضطراب الذي ميز سنوات واشنطن تلك، طال كل المستويات. سياسيا وعسكريا كانت واشنطن في طريق الخروج المهين من فيتنام، ومؤسساتيا كانت إدارة نيكسون تواجه تصدعات هائلة من استقالة نائب الرئيس سبيرو أغنيو، إلى حال الإحباط وشبه الغياب الذهني للرئيس نفسه، أما إعلاميا وشعبيا فكانت فضيحة ووترغيت تطوق البيت الأبيض، وتستنزف كامل تركيز فريق نيكسون. وسط هذه المعمعة انفجرت حرب 1973، ولجأ العرب إلى سلاح قطع النفط، ووصلت المواجهة السوفياتية – الأمريكية إلى حافة الحرب النووية.

الدرس الذي يستخلصه إنديك من كيسنجر، هو أن السلام إذا ما دفع باتجاهه بقوة سيؤدي إلى الحرب وكسر عملية السلام، وهو ما يقر إنديك بأنه حصل مع الفلسطينيين في الأيام الأخيرة من ولاية بيل كلينتون، حين حاولت الإدارة فرض السلام بقوة وعناد. وهذا درس مهم لإدارة الرئيس جو بايدن، الذي يسعى جاهدا إلى فرض السلام النووي الإيراني – الأممي بقوة، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار ما يقوله كيسنجر إنها شروط السلام.

مشكلة الاتفاق مع إيران أنه لا يعالج المظالم الرئيسية التي تخلق معالجتها مصلحة للدول المعنية في المنطقة، كي تدعم الاتفاق وترحب به. لن تفعل ذلك إسرائيل وعلى حدودها عشرات الآلاف من الصواريخ الإيرانية، ولن تقبل به دول الخليج، في حين ترعى إيران تحفيز النعرات المذهبية في المجتمعات العربية، وتدير في داخل بعضها ميليشيات مجرمة، وفي بعضها الآخر خلايا أمنية خطيرة.

مشكلة الاستقرار في المنطقة اليوم، ليست إسرائيل ولا الحرب الباردة ودول المعسكر الشرقي العربية، بل إيران كنظام ثوري يسعى بشكل دؤوب لتغيير قواعد اللعبة وتوازناتها.

محاولات فرض السلام بالقوة، وشراء الوقت من دون رؤية لإعادة إنتاج نظام استقرار في الشرق الأوسط هو أقصر الطرق إلى حرب جديدة، تعيد استدراج واشنطن إلى الشرق الأوسط، تماما كما حصل عام 1973.

الفارق يومها أن من بدأ الحرب، أي أنور السادات، كان يخطط عبر الحرب للسلام واستعادة استقرار عادل. ذهب السادات إلى الحرب مع دولة يعلم أنها نووية، مدركا أن الحرب ستظل في إطارها التقليدي. أما مع إيران الثورية، التي تسعى إلى تعميم الخراب تمهيدا لظهور الإمام الغائب، فلا أحد يعلم كيف ستسير هذه الحرب التي يقودنا إليها إصرار ساذج على صناعة السلام – النووي مع إيران.

 

نافذة:

مشكلة الاتفاق مع إيران أنه لا يعالج المظالم الرئيسية التي تخلق معالجتها مصلحة للدول المعنية في المنطقة كي تدعم الاتفاق وترحب به

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى