دانيال الكنفاوي.. الصحفية التي ارتبطت بدبلوماسي مضرب عن العمل
حسن البصري
لم يكن أحد من زملاء عبد الصمد الكنفاوي يعتقد أن الرجل الذي شغل مناصب دبلوماسية هامة، سيعتزل المناصب العليا وينخرط في الفن المسرحي. وحدها زوجته جيني دانيال، هي التي تفهمت الوضع ورافقته في أصعب المنعرجات التي مر بها، لا سيما في صراعه مع المخزن الذي اعتبره عنصرا لا يمت للدبلوماسية بصلة، لأنه كان يفكر بصوت مرتفع.
ولد عبد الصمد في مدينة العرائش سنة 1928، وهي المدينة التي تعلق بها أديب يتقاسم معه الهوس الأدبي «جان جيني» الذي اختار مرقده النهائي على ربوة مطلة على المحيط الأطلسي. هكذا عشق عبد الصمد العرائش وحجز لها مكانا في قلبه، حتى حين انتقل إلى الرباط لاستكمال تعليمه بثانوية مولاي يوسف، وظل يعيش بين الرباط والعرائش إلى أن حاز على شهادة الإجازة في القانون سنة 1951.
عين، خلال فترة دراسته، مسؤولا عن مكتبة الثانوية ما مكنه من التعرف على أبرز الكتابات المسرحية. وفي بداية الخمسينات جمع الفتى بين النظري والتطبيقي حين شارك في الدورات التدريبية التي كان المستعمر الفرنسي ينظمها بين الفينة والأخرى بمركز المعمورة تحت إشراف فرنسيين هما «نوران وإلوكا».
بفضل المسرح كتب لعبد الصمد أن يقوم بأول رحلة خارجية صوب فرنسا، ففي سنة 1956 مثل المغرب ضمن فرقة مسرحية محترفة، في مهرجان باريس كان نصيبها الرتبة الثانية من خلال عمل مسرحي تفاعل معه الجمهور عنوانه «الشطاب».
لكن بعد حصول المغرب على الاستقلال شرعت أول حكومة في رصد الكفاءات المغربية، فكان نصيب عبد الصمد منصبا دبلوماسيا رفيعا، إذ عين قنصلا في قنصلية المغرب ببوردو. هناك التقى بشابة سويسرية الجنسية تدعى جيني دانيال، سترافقه على امتداد مساره المهني وستظل وفية لروحه بعد وفاته بعقود. التحقت به في بوردو وبعد سنتين عين ملحقا ثقافيا في سفارة المغرب بالعاصمة الفرنسية، فكانت رفيقته في حله وترحاله بين بوردو وباريس وستراسبورغ ثم موسكو، إضافة إلى مرور عابر ببوينيس أيريس.
كان أول لقاء بين دانيال وعبد الصمد في أحد مسارح بوردو. هناك التقى بالصحفية التي كانت بدورها عاشقة للمسرح، فتوغلت علاقتهما لتدخل معابر الجد، ما جعل عبد الصمد يشعر «الإدارة العائلية المركزية» في العرائش طالبا التزكية الأسرية كما تفرض الأعراف، وهو ما تأتى له.
لمست دانيال في الشاب المغربي علامات النبوغ، وبفضله غيرت نظرتها للعرب، وقررت التمرد على أعراف وطنها والانخراط في تجربة فريدة، يمتزج فيها الفن بالدبلوماسية وبالإعلام، وعاشت قصة حب عنيفة مع مغربي تعددت مهامه وتضاربت مشاربه، إذ استطاع أن يمثل أكثر من دور في حياته الواقعية، فهو تارة مسرحي وتارة دبلوماسي وتارة أخرى نقابي، لكنه في كل الأدوار كان حريصا على أن يمنح بصمة الإبداع لعمله.
في سنة 1961 شارك عبد الصمد الكنفاوي في إضراب تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل، احتجاجا على طرد مجموعة من الدبلوماسيين. ولأن الإضراب، حسب الأعراف السائدة بين رجال الدولة، ليس من «شيم القناصلة»، فقد غضبت الخارجية من الكنفاوي وغضب هو أيضا منها ليتم تسريحه، ويعود سعيدا إلى الخشبة.
لم يوفر الرجل الدرهم الأبيض لليوم الأسود، بل عاش على الإيقاع نفسه، وظل كريما حتى في عطالته، تقول زوجته دانيال: «فوجئت في الشهور الأولى من علاقتنا، بعبد الصمد وهو يخصص في نهاية كل شهر مبالغ مالية لأصدقائه في العرائش أو الرباط والدار البيضاء. لم أفهم سر هذا السخاء واعتقدت أن الأمر مؤقت ولن يدوم طويلا، لكنه ظل على حاله حتى في أصعب اللحظات التي مر بها».
عاد الكنفاوي إلى المناصب الحكومية، وتقلد منصبا قياديا في مكتب التسويق والتصدير، وكاتبا عاما في فترة ثانية بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، دون أن يدير ظهره للمسرح حيث ظل يقضي لياليه في كتابة أعمال خالدة، منها ما تعرض للمصادرة،، خاصة مسرحية «بوكتف»، وهو ما زاد من غضبه.
كان الرجل بوهيميا يسهر الليالي وهو يحاور ملكة إلهامه، وهو ما دفع الملك الحسن الثاني إلى أن يقول لأرسلان الجديدي، حين كان هذا الأخير وزيرا للشغل، «لو لم يكن عبد الصمد بوهيميا لعينته بدلا عنك».
في سنة 1975 انتقل عبد الصمد إلى دار البقاء وهو في قمة العطاء، ومنذ رحيله، ظلت زوجته دانيال وفية لذكراه، بل ساهمت في تأسيس جمعية تحمل اسم الكنفاوي. وبمجهود خاص ساهم فيه رفاقه تم جمع تراثه كي تستفيد منه الأجيال. ونظرا لمكانته في قلوب أهل الفن، فقد شيعت مجموعة «ناس الغيوان» عبد الصمد بمقطع خالد يقول: «سعدات اللي يرضى عليه الكنفاوي».