دار السعيد 2
«زهيرو» امرأة يناهز عمرها الخمسين سنة، كانت سمراء فارعة الطول غير سمينة، متينة، جهورية الصوت، تسمع نداءاتها وزعيقها من «باب الحومر» كما كان الأهالي يقولون. كانت تقف وسط الحي ليفرغ في رمشة عين، الجميع كان يتجنب لقاءها ولو صدفة، لأن نظراتها كانت ثاقبة، وعينها لا ترحم إلا من رحم ربي.. هكذا كانوا يقولون. مواهبها عديدة، فهي مثلا لا تنام إلا قليلا، وإذا نامت أغمضت جفنا وتركت الآخر للمداومة، تستيقظ باكرا لتمشط أرصفة الحي، ثم تنطلق إلى السوق الرئيسي في الساعات الأولى من النهار، لكي تقتني الطازج من السمك والخضر والأخبار، حريصة كل الحرص أن تحقق السبق الإعلامي لأهالي المدينة العتيقة، جامعة مانعة لكل كبيرة وصغيرة في حياة الناس، حتى إنهم كانوا يلقبونها بـ«أخبار السوق». وفي طريق العودة تقوم بمسح شامل ودقيق لكل من ولج السوق ومع من وماذا اشترى، ثم ترقب المارة في الشارع والمحلات بـ»قيسارية» الأثواب والحرف التقليدية، ثم تتأكد من عتبات المنازل إن كانت نظيفة أم العكس، ومن من السكان قام بدهن جدران منزله، ومن تركها للهباء.. أما ملف أخبار الزواج والطلاق والمواليد والوفيات وكل ما يتعلق بالأحوال الشخصية، فقد كانت السيدة لا تدع مجالا للشك في تفاصيله، تجند كل طاقاتها للحصول على الخبر اليقين حتى تكون مصدرا موثوقا به لدى الجميع..
عندما تصل إلى بيتها، توزع مهام أعبائه على أبنائها ثم تتفرغ لبرج المراقبة، من النافذة تارة ومن السطح تارة أخرى، إلا أن أحب هواياتها، أن تلقي نظرة بين الفينة والأخرى على باب السرداب المؤدي إلى البئر، تنتظر متى تفتح أمي الباب لجلب المياه، فتبدأ السيناريو المعتاد بتحيتها المفتعلة، المطعمة بكثير من المحاباة والبهتان، كأن تشكر وتثني على أفضال ومزايا صاحب المنزل ورعيته، وتعداد مناقبه ومحاسن زوجته، لكي تمهد الطريق فينفتح لها باب المنزل.. تترك أمي ما بيمينها وترحب بجارتها، التي تقفز من عتبة باب البئر مثلما كنا نقفز فوق لعبة الحجلة.. أمي سيدة خجولة وتستحي في مثل هذه المواقف، فليس بوسعها أن تستأذن من جارتها لأن الوقت غير مناسب للاستقبال والتحدث، لا تستطيع إحراجها أبدا، بل تستقبلها بالابتسام والترحيب، وتدعوها للجلوس وما إن كانت ترغب في شرب الشاي، فتتمادى الأخرى حيث كانت تمارس هوايتها تلك وفق طقس غريب، ترفض الشاي وتطلب بدله خبزا ساخنا، بينما تخرج من جيبها خروب فلفل حار، ثم تشرع في التهام الخبز والحار والحديث المسترسل الذي لا ينتهي عن أحوال السكان ومعيشتهم وظروفهم ومشاكلهم، كان الكلام يخرج من فمها مثلما يتدفق الماء من النافورة، الشيء الوحيد الذي كان يوقف زحفها هو صوت أبي عندما يصل إلى البيت، فتنهض مذعورة وتنط من عتبة باب البئر من دون استئذان أو سلام.
أذكر أنني كنت أنظر إلى تلك السيدة أكثر مما أصغي إليها، ببساطة لأنني لم أكن أستوعب ما تتفوه به، لكنني كنت أفهم معاني نظراتها الحادة ببراءتي، وأذكر أنني كنت أصرخ كلما اقتربت لتقبلني.