دارفور مجددا
معن البياري
حدث، قبل نحو خمس سنوات، أن الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، قال إن الشيطان دخل بين السودانيين، وعليهم أن يلعنوه، تعقيبا على توتر قبلي وقع في دارفور، جرت في أثنائه اعتداءات واستباحات واشتباكات، بعد فترة هدوء نسبي ومتقطع في الإقليم. وقبل أيام، بعد مقتل أكثر من مائة وجرح آخرين قرب الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، في مواجهات قبلية دامية، قال نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، محمد حميدان دقلي (حميدتي)، إن مأجورين (ومُرجِفين!) في وسائل التواصل الاجتماعي يؤججون الصراع في السودان. ودعا أهالي دارفور إلى أن يفوتوا الفرصة على هؤلاء الذين يبثون «اللايفات». والظاهر أن أحدا هناك لم يقبض هذا الكلام على محمل الجد، ربما لأن لصاحبه سجلا مروعا في الإقليم المضطرب، ولا يزال يحتفظ بموقعه قائد قوات الدعم السريع، وهذه ميليشيات تشكلت أساسا من «الجنجويد» الذين ظلوا يدا ضاربة مسنودة من الحكومة في دارفور. وقد ذكرت تقارير، ربما لها بعض مصداقية، أن أفرادا من قبيلة هذا الرجل (الزريقات) وأقارب له، شاركوا في الاعتداءات التي شهدتها ولايتا غرب دارفور وجنوب دارفور في الأيام الماضية، وقضى فيها أزيد من مائتين، عدا عن جرحى بلا عدد، (بينهم أطفال ورضع)، فضلا عن حرق معسكر نازحين ومزارع، ونهب منازل، وعمليات قتل مريعة. وقد تتالت الأخبار من الإقليم (ستة ملايين نسمة، 510 آلاف كيلومتر مربع)، عن هذه الفظائع، متتابعة مع إجراءات وتحركات بادرت إليها الحكومة في الخرطوم، بدفع قوات لحفظ الأمن وضبط الأوضاع التي استدعى لهيبها اجتماعا لمجلس الأمن، طارئا مغلقا، لم يفلح في إصدار أي موقف (أو إعلان إنشائي)، بسبب اعتراض دول (بينها روسيا) على «تدخل» في سيادة السودان، وطالما أن ما جرى لا يتعدى اقتتالا بين «مجموعات سكانية».
ليس الشيطان هو من يشعل في الإقليم السوداني الشاسع نوبات الاقتتال والاحتراب واعتداءات قبائل على أخرى، وإن راق للبشير أن يرمي عليه مسؤولية هذا كله. وليس صحيحا ما ادعاه حميدتي، أن أصحاب «لايفات» في وسائل التواصل هم وراء الشناعات الفادحة التي وقعت هناك. إنما هو النقصان الفادح في الثقة بين المكونات القبلية، العربية وغير العربية، معطوفا عليه فشل في إنفاذ خطط حفظ الأمن وتعزيز السلام الأهلي، منذ أشعلت الأزمة المحتدمة واقعة في الفاشر في ولاية شمال دارفور في 2003. وهي خطط أكثر من أن تعد، (أبرزها وثيقة الدوحة 2016)، ومنها الاتفاقات الموقعة في جوبا بين حركات تمرد مسلحة والحكومة في أكتوبر الماضي. ولافت، في هذه الغضون، أن «التدهور المريع الذي بدأ يشهده الوضع الأمني في الإقليم»، بحسب وصف دقيق لوالي شمال دارفور، تزامن مع انتهاء تفويض القوة المشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي (يوناميد) الشهر الماضي، وكان البند السابع يتيح لها استخدام القوة لفرض الأمن. سيما وأن أهالي الإقليم بادروا إلى احتجاجات على مغادرة هذه القوات التي يجري حاليا استبدالها بقوات مشتركة من الحكومة والمجموعات المتمردة الموقعة على اتفاق جوبا.
البادي أن ثمة خوفا متوطنا لدى «المجموعات السكانية» في دارفور من ذئاب لا تُؤتمن حتى على صغارها، ستتوزع في الإقليم (18 ألف عنصر)، ليس من ثقة بها، وبأنها ستعمل حقا على تأمين حماية الرعاة والمزارعين وعموم ناس الإقليم الذين يغلب عليهم الفقر، ويتنازعون على موارد الماء والسقي. يمكن أن يُرد الذي جرى أخيرا في قرى الجنينة (غرب دارفور) ونيالا (جنوب..)، بعد شجار بين شخصين في الأولى واعتداء في الثانية، إلى هذا الخوف المقيم في النفوس، والذي يفسره الامتعاض الشديد من انسحاب القوة الإفريقية الأممية، والتي تغادر تباعا في ستة شهور، ولم تتدخل في أثناء الاستباحات قدامها أخيرا. ولما كان هذا الخوف متفشيا، سيما بين مستضعَفين لا يستشعرون أمنا وأمانا بين ظهرانيهم، فيما تنتشر بين ساكني الإقليم الأسلحة بلا عدد (سمع الكاتب من مسؤول سوداني في نيالا في 2008 إنها 12 مليون بندقية)، ومنها أسلحة ثقيلة ومتوسطة استخدم شيء منها الأسبوع الماضي، فإن لواحدنا أن يتحسب من أهوال متجددة هناك، لا سمح الله، بافتراض أن ما وقع قادح ونذير، و«بروفة» أولى، والله أعلم.