خيار اللاعنف
بقلم: خالص جلبي
في عام 1997م دعيت إلى عمان للمشاركة في ندوات فكرية قدمتها مؤسسة سجى للإنتاج الفني، واجتمعت هناك بطائفة كبيرة من المفكرين المرموقين، الذين يعتبرون قمم الفكر الإسلامي، وكنت أنا وجودت سعيد نمثل فكرة اللاعنف بهذا المؤتمر.
ويومها اجتمعت بثلاثة أشخاص أراهم للمرة الأولى، فقالوا لي: «أنت الذي يقول بعدم الدفاع عن النفس، وعدم استخدام القوة في تغيير الأوضاع؟»، قلت: «نعم». فبدأ أوسطهم في الحديث، وأصبح مقدم برامج في قناة «الجزيرة» لاحقا، فضحك علي حتى وقع على ظهره من سذاجتي وقلة خبرتي، وعدم فهمي للنصوص القرآنية.
ولقد أصغيت بحذر لكلام الثلاثة لمدة 25 دقيقة بدون تعليق، حتى إذا فرغوا قلت لهم: «لا جديد عندكم، وبإمكاني أن أعطيكم أسلحة جديدة من الأفكار تتسلحون بها، ولكن لماذا أسهل مهمتكم؟».
قال الأول من جديد: «أنت تتحدث باللاعنف، والتاريخ كله دم، فهل هناك شاهد واحد للتغيير الاجتماعي بدون دم؟»، قلت له: «إن أعظم ثورة اجتماعية على الإطلاق لم تكن البلشفية ولا الفرنسية، وهي ليست بتلك النماذج المشرفة، ولا حتى الإيرانية التي بدأت باللاعنف، وختمت بيد المجرم الخلخالي وأضرابه في حملات إعدام لم تتوقف، ولكن ثورة محمد صلى الله عليه وسلم حدثت وتمت ونجحت بخسارة شهيد واحد، وكانت امرأة هي (سمية) التي لم تدافع عن نفسها. فهل هناك أسلوب اقتصادي أفضل من هذا للنجاح الاجتماعي؟».
وعند هذه النقطة يقفز الجميع ويقولون: «ما بال الغزوات والسرايا والفتوحات؟»، وعند هذه النقطة ندخل في منطقة ضبابية أشد من عسير ولندن، وهي أن محمد (ص) أقام دولة وبنى مجتمعا بالعنف.
وهنا يقولون إن المسيح لم يستخدم قوة مسلحة ومحمد (ص) استخدمها، والاختلاط يأتي من مرحلة (الدعوة) و(الدولة)، لأن الدولة هي التي تمارس العنف، منذ أن اخترع البشر الدولة وصنعوها، بسبب بسيط أن الدولة باحتكارها العنف توفر الأمن للأفراد كي يتمكنوا من إقامة الحضارة، فلولا «الأمن» ما نشأت وحدات الحضارات. والرسول محمد (ص) يختلف عن المسيح عليه السلام، أن الثاني لم يكمل عمله، والأول أكمله، وكان المسيح يلوح أحيانا باستخدام القوة، فقد جاء في الإنجيل: «ما جئت لألقي سلاما بل سيفا». وبالمقابل كان الرسول (ص) يوصي أتباعه في المرحلة المكية بعدم الدفاع عن النفس، ونزل القرآن يقول: «كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة». وكان النبي (ص) يكرر لأتباعه: «لم نؤمر بقتال».
والسيف في الإنجيل إشارة إلى ما فعله محمد (ص) بعد إقامة الدولة، في ممارسة العنف بعد احتكار القوة، التي هي وظيفة كل دولة، ولا يمكن أن تقوم دولة بدونها عمليا حتى اليوم، فالدولة كنظام سياسي لها وظيفة أولى هي توفير الأمن داخلها للأفراد باستخدام العنف. يظهر هذا واضحا في منظر رجل الشرطة والمسدس يتدلى من خصره، حينما يستدعى للفصل في حادث سيارة، في أي مكان في العالم اليابان أو ماليزيا أو أمريكا وكندا.. ولا أظن أن (الريجيه) المؤسسة الكندية للفصل بين مالك البيت والمستأجر تتوانى عن استخدام الشرطة، في ما لو حكمت القاضية بخروج المستأجر وعودة البيت لمالكه الأساسي، ورفض المستأجر الخروج من المنزل؛ فداخل أي دولة تمارس إذا لزم الأمر القوة المسلحة لتطبيق القوانين داخلها، والدفاع عن نفسها في الهجوم عليها من الخارج.
وحديثنا يدور حول موضوع (كيفية صناعة المجتمع؟) هل ينشأ بالقوة العسكرية، أم سلميا؟ ولماذا حرص كل الأنبياء على سلوك الطريقة نفسها؟ ولقد جاءك من نبأ المرسلين. وهل يزال الطاغوت بطاغوت القوة، أم يزال الطاغوت بالشرعية؟ فهذا ما فعله محمد (ص)، وما كان يحاول المسيح عليه السلام وغيره من الأنبياء فعله، من إزالة الطاغوت بالشرعية سلميا، ولم يكمل المسيح عمله، وأكمل محمد (ص) عمله، مما جعل اليهود في المدينة حين سمعوا الآية: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا»، أن قالوا لو نزلت هذه الآية علينا لجعلنا يومها عيدا. وهو الذي جعل الفلكي الأمريكي (مايكل هاردت) في كتابه «العظماء المائة أولهم محمد (ص)» والذي سرق كاتب عربي كتابه ونسبه لنفسه، يعتبر محمد (ص) نجح نجاحا باهرا مائة بالمائة، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون أفضل الرجال في التاريخ.
وفي جلستي تلك أذكر الثاني أيضا، وكان مفكرا إسلاميا فلسطينيا يصر على أسنانه غضبا وغيظا، وفي النقاشات التي دارت في لقاءات المؤتمر (سجى) صرخ صاحبنا الثاني يومها: «لا تسمعوا لجلبي فهو يستند إلى آية من القرآن ونبيه رجل من الهند اسمه غاندي»، فقام رجل فرد عليه، وقال: «إن جلبي يدعو إلى حقن الدماء و(فلان) يدعو إلى سفك الدماء»، مما جعل قياديا إسلاميا معروفا في الأردن يقفز ويتناول الميكروفون بسرعة ويقول: «يجب أن أدافع عن الرجل قبل أن يصبح اسمه في المطارات». ومن أعجب ما قرأت للرجل لاحقا، أنني كنت أتصفح يوما جريدة «الحياة»، وإذا بالرجل نفسه يكتب في اللاعنف، مما يدل على أن الذي يغير عقلية الناس ضغط الأحداث أكثر من القناعات العقلية.