خلف ظهر حكومة جونسون
مالك التريكي
من الآثار الجانبية للجائحة العالمية أن قنوات التلفزيون لم تعد تستطيع استقبال الضيوف في الاستوديو، فصارت الحوارات معهم تتم في المعظم عبر سكايب أو زوم. وقد حدث في الأسابيع الأولى من فرض الحجر أن كثيرا من المذيعين الغربيين قدموا الأنباء والبرامج من بيوتهم، وتم تناقل صور لبعضهم وهم في وضع مهنيّ من الرأس حتى الحزام (الجاكيت وربطة العنق) وفي وضع بيتيّ في ما دون ذلك (بنطلون رياضي أو غطاء على الركبتين). وبما أن أكثر الضيوف هم من الساسة والخبراء والأطباء، فقد كان من الطبيعي أن يتحدثوا إلى الشاشة من مكاتبهم وأن تكون رفوف الكتب هي الخلفية شبه الوحيدة للمشهد.
وقد لاحظ الجمهور ذات يوم أنه كان ضمن الكتب التي تحملها الرفوف خلف الوزير البريطاني مايكل غوف كتاب «طريق الحرب» للمؤرخ ديفيد إيرفنغ المعروف بإنكاره لوقائع الهولوكوست. فكان أن ثارت الضجة على غوف ونصبت له المحاكم. والحق أن الرجل مظلوم، فهو من أكثر الساسة تحمسا لدولة إسرائيل. والدليل أن أول من انبرى للدفاع عنه هو ستيفن بولارد رئيس تحرير جويش كرونيكل، لسان حال يهود بريطانيا، حيث قال: فلتهاجموني أنا أيضا لأن لدي في مكتبتي كتابين اثنين لإيرفنغ، إضافة لكتاب هتلر وكتاب ماو.
إلا أن المسألة قد اتخذت، قبل يومين، منحى أكثر طرافة وتشويقا عندما زار رئيس الوزراء بوريس جونسون مدرسة في إطار الحملة الرامية للإقناع بأن العودة إلى المدارس واجبة وبأن المخاوف من انتشار عدوى مرض كوفيد بفعل اختلاط التلاميذ غير مبررة، وبأن سبب أزمة نتائج الامتحانات إنما هي «طفرة في الخوارزميات».
ذلك أن الزيارة وقعت في أعقاب أسوأ أزمة شهدها قطاع التعليم في بريطانيا بسبب الأخطاء الشنيعة التي نجمت عن نظام التقييم الذي اعتمدته الحكومة هذا العام بدلا عن امتحانات الثانوية العامة والباكالوريا. وقد أوقعت هذه الأزمة عشرات الآلاف من التلاميذ والعائلات في كرب شديد وأثارت سخط كامل قطاع التعليم. ومثلما جرت العادة، تنصلت الحكومة من المسؤولية ولجأت إلى حيلة التضحية بمديرة هيئة الامتحانات وبموظف كبير في وزارة التعليم (بإجبارهما على الاستقالة).
ولهذا فإن بعض أهل التعليم وجدوا في زيارة جونسون للمدرسة فرصة للانتقام. ذلك أن صحافية التايمز أيمي غيبونز لاحظت أن عناوين الكتب التي كانت ظاهرة على الرفوف خلف المنصة التي ألقى منها جونسون خطابه داخل المدرسة لم توضع هنالك كيفما اتفق، وإنما هي رتّبت ترتيبا مقصودا بحيث تنبثّ منها رسائل لا تخطئها العين. فقد كان بينها رواية لرولد داهل، شيخ كتّاب أدب الأطفال، عن «عائلة تويت» التي يتفنّن فيها الزوجان المتباغضان في تبادل أفاعيل التشفّي وطعنات المكر والترويع؛ ورواية فيليب بولمان «سكين الخفايا» التي تتعلق بصبي (جونسون؟) يوهب سلطة فائقة ما هو بأهل لها؛ ورواية «ضحية الغدر» لفليس وكريستين كاست التي يلمّح عنوانها إلى المسؤولين اللذين تمت التضحية بهما فدية لوزير التعليم ولرئيس الوزراء.
أما عنوان الكتاب الذي كان بارزا بقوة مغزاه وبوضوح مقصد الكتبيّ أو المدرّس الذي وضعه على الرف فهو «فارنهاينت 451» الذي يروي فيه راي برادبري قصة دولة استبدادية تحرّم الكتب والقراءة تحريما. وبجانبه كانت رواية ترّي براتشت «الحرس! الحرس!» التي تتعلق بمؤامرة تدبرها جمعية سرية للتخلص من الحاكم الشرعي وتعويضه بملك ضعيف يسهل التحكم فيه. وبجانب هذا كانت رواية «بيوت من زجاج» للويز بني التي تحيل إلى المثل الشائع «من كان بيته من زجاج (جونسون) فلا يرمينّ الآخرين (مسؤولي وزارة التعليم) بالحجارة». أما رواية تشارلز ديكنز أوليفر تويست، التي يحفظ الجميع جملتها الشهيرة التي يرددها الصبي الجائع: بالله عليك يا سيدي، أريد المزيد (من الطعام)، فيبدو أنها ما وضعت هناك إلا لتكون حكم إدانة ضد الحكومة التي حرمت الأطفال المعوزين من وجبات الغذاء المجانية في المدارس، ثم اضطرت للتراجع تحت تأثير حملة تزعمها أحد نجوم كرة القدم.
لهذا كانت صحافية التايمز أول من التقط الرسالة عندما لاحظت أن كل هذه العناوين قد اختيرت بعناية فائقة وبروح نكتة لافتة من أجل عيون الكاميرا، وأن من وضعها على الرف إنما أراد لها أن تتضافر بدلالاتها وتتهامس وتتغامز بإيحاءاتها لتروي للأمّة رواية وتقص عليها خبرا من وراء ظهر رئيس الحكومة. إنه غمز العناوين ولمز الكتب. انتقام من السياسة بأفانين الأدب.