خلاتو ممدود ومشات تعزي فمحمود
بينما كان المشير عبد الفتاح السيسي يستقبل المشير خليفة حفتر وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي لاقتراح مبادرته الفاشلة لإنقاذ حفتر من الهزائم المتتالية التي حلت بقواته، في تغييب مقصود لاتفاق الصخيرات رفضه رئيس المجلس الأعلى للدولة، نشبت في المغرب معركة كلامية بين ثلاثة أحزاب مغربية، ليس بسبب اختلاف وجهات نظرها حول النموذج التنموي الذي يجب أن يعتمده المغرب بعد جائحة كورونا، وليس حول الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها طبقات واسعة من الشعب بسبب تداعيات الحجر الصحي، بل إن هذه المعركة اندلعت بسبب الموقف من التدخل الخارجي في ليبيا.
ولكي يصطف حزب العدالة والتنمية في نسخته المغربية مع موقف العدالة والتنمية في نسخته التركية في الملف الليبي لجأ إلى استغلال مبادرة الدولة المغربية التي نتجت عنها حكومة الصخيرات المعترف بها دوليًا لكي يهاجم حزبين مغربيين وقعا إلى جانب ستة وثلاثين حزبًا عربيًا على بيان يدين التدخل الخارجي التركي في ليبيا ويتهمهما بالخروج عن الإجماع المغربي بخصوص الملف الليبي.
في حدود علمنا فالإجماع المغربي كان دائما حول قضيتين أساسيتين، الأولى والأهم هي قضية الصحراء المغربية، والثانية هي قضية فلسطين، وفي هاتين القضيتين لا نكاد نسمع لحزب العدالة والتنمية حسا.
ولقد كان أولى بمواقف الحزب الحاكم الحماسية بخصوص الإجماع المغربي أن تظهر إزاء إطارات حزبية وسياسية تتبنى مواقف مخالفة لإجماع المغاربة بشأن قضية الصحراء داخل المغرب، كما يصنع حزب النهج مثلًا عندما يطالب قياديوه بتبني تقرير المصير في الصحراء للشعب الصحرواي، ورغم ذلك لم نسمع بلاغًا واحدًا لحزب العدالة والتنمية ينتقد هذا الخروج عن الإجماع الوطني من طرف هذا الحزب، لكن عندما تعلق الأمر بمصالح تركيا في ليبيا رأينا كيف سارع الحزب لنشر موقفه على موقعه الرسمي والذي يتهم فيه الحزبين المغربيين اللذين وقعا على بيان يدين التدخل التركي في ليبيا بالخروج عن إجماع المغاربة.
الملف الليبي بالنسبة للمغرب ملف مهم واستراتيجي، لا شك في ذلك، والحكومة التي خرجت من الصخيرات بقيادة السراج تبدو اليوم أكثر قوة بعد الهزائم المتلاحقة التي ألحقتها قواتها المدعومة بطيران أردوغان بحفتر وجيشه ومن يسلحونه، لكن المغرب لم ينصب نفسه يوما طرفًا في هذا الملف، بل إن وزير الخارجية المغربي سبق له أن قال إن ليبيا لا يجب أن تصبح أصلا تجاريا على حساب مصالح الليبيين. بمعنى أن المغرب لعب ويلعب دور وساطة لحقن دماء الليبيين، ولم يقل أبدا إن الحكومة الليبية ترقى إلى مستوى قضية يصبح حولها إجماع وطني.
وبالمقابل نفهم أن يكون الملف الليبي قضية وطنية بالنسبة لتركيا لأنها وقعت مع حكومة السراج اتفاقيات للتنقيب عن النفط والغاز، أما بالنسبة للمغرب فليبيا قضية ديبلوماسية وليس للرباط مصالح نفطية في ليبيا أو سواحلها. وهو الموقف الذي انضمت إليه تونس عندما قال الرئيس التونسي قيس سعيد للرئيس الفرنسي ماكرون إن الحل في ليبيا يجب أن يكون ليبيا ليبيا بدون أي تدخل خارجي، وأن تونس هي المتضررة من الاحتراب داخل ليبيا.
وهذه ليست أول مرة يتجند فيها حزب العدالة والتنمية المغربي خلف حزب العدالة والتنمية التركي للدفاع عنه، فقد صنع ذلك مؤخرا عندما هدد المغرب بتعليق العمل باتفاقية التبادل الحر مع تركيا، فرأينا حالة الاستنفار التي وقعت داخل الفريق البرلماني للحزب الحاكم وكيف استدعوا وزير التجارة والصناعة إلى البرلمان لكي يحاكموه على هذا القرار الذي يهدد المصالح التجارية التركية بالمغرب، مطالبين إياه، في إطار المزايدة، بتعليق جميع اتفاقيات التبادل الحر غير المنصفة مع الدول الأخرى وليس فقط مع تركيا. والمصيبة أن “مالين الميت صبرو والعزايا كفرو”، فالأتراك تفهموا موقف المغرب وأبدوا استعدادهم لمراجعة الاتفاقية، فيما برلمانيو العدالة والتنمية استعصموا بموقفهم وكأن عاصمتهم هي أنقرة وليست الرباط.
كنا ننتظر أن يخرج الحزب الحاكم بموقف مما صدر عن سفيرة فرنسا بالرباط هيلين لوكال والتي نشرت تغريدة تحدثت فيها بعجرفة واستعلاء وأستاذية عن إطلاعها من طرف شكيب بنموسى على تقرير مرحلي لتصور لجنة النموذج التنموي، في خرق صارخ لواجب التحفظ من طرف الجانبين، وكأنها أستاذة تطبطب على كتف تلميذ نجيب أجاب عن سؤال صعب، لكن الحزب فضل كعادته أن ينهج سياسة النعامة التي يجيدها في مثل هذه القضايا التي تتعلق بالسيادة.
وتمنينا أن نسمع لهم موقفا أو رأيًا عندما تسلط الذباب الإلكتروني على المغرب يسب ويشتم رجاله ونساءه ويعرض بمؤسساته ووحدته الترابية، لكنهم فضلوا التراجع إلى الخلف والتفرج. فطالما أن المستهدف ليس هو تركيا ومصالحها في المغرب والمنطقة فإنهم يحتفظون بأعيرتهم النارية في بنادقهم إلى حين صدور الأمر من الباب العالي. ولعل أحسن وصف يعطيه المغاربة لمثل هذه المواقف هو المثل الذي يقول “خلاتو ممدود ومشات تعزي فمحمود”، واصفًا حال المرأة التي تترك زوجها المحتضر لكي تذهب لتقديم العزاء في موت جارها.
ولعل السؤال الذي يطرحه البعض الآن بعد توقيع حزبي الطليعة والمؤتمر الوطني على بيان مؤتمر الجبهة العربية التقدمية إلى جنب 38 حزبًا آخر ضد التدخلات الخارجية في ليبيا هو هل أصبح هذان الحزبان مناصرين للموقف الإماراتي في ليبيا الداعم لحفتر؟ خصوصا وأن البيان الذي وقعا عليه خص التدخل التركي بالذكر في البيان، فيما أشار في الفقرة الخامسة من البيان نفسه إلى التدخلات الخارجية الأخرى بالتعميم دون تسميتها. فهل أصبحت الجبهة العربية التقدمية في خدمة من ظلت تسميه حلف الرجعية العربية؟
المعروف أن مؤتمر الجبهة العربية التقدمية، والذي عقد مؤتمره التأسيسي في طنجة سنة 2019، يضم أغلب الأحزاب العربية التقدمية، كالحزب الشيوعي وحركة الشعب اللبنانيين، والحركة الناصرية المصري، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وغيرها من الأحزاب التي تدور حول المحور السوري الإيراني الروسي، المعادي للمحور الإماراتي المصري السعودي الأمريكي الفرنسي.
فما الذي حدث إذن حتى وجدت أحزاب بهذا التوجه التقدمي نفسها موقعة على بيان يصب في صالح محور الإمارات ومصر ضدًا على محور تركيا وقطر؟
هناك رواية تقول إن البيان تمت صياغته في تونس وأن المبدأ كان هو إدانة التدخل الأجنبي بشكل عام في ليبيا، لكن أحزابا مقربة من محور الإمارات أضافت إليه فقرة إدانة التدخل التركي، مما وضع أحزابا موقعة على البيان من المغرب ولبنان وتونس في موقف محرج، ولذلك سارع حزب الطليعة لإصدار بيان يوضح فيه موقفه ويؤكد “رفضه التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للبلدان العربية خاصة تلك التي لا تزال شعوبها تتعرض لتآمر مكشوف لأطراف التحالف الصهيوني الإمبريالي الرجعي”.
وبرأيي فالأحزاب السياسية يجب أن تنشغل بالشؤون الداخلية للبلدان التي توجد بها وأن تضع نصب أعينها خدمة شعوبها والدفاع عن مصالحها داخل المؤسسات المنتخبة، وأن تدافع عن الحرية والديمقراطية داخل البلدان التي نشأت فيها، وأن تترافع عن القضايا الداخلية ذات الإجماع الوطني لبلدانها لما فيه مصلحة شعوبها، أما أن تترك كل ذلك وتدس أنفها في شؤون بلدان بعيدة عنها خدمة لمصالح القوى الدولية المتصارعة داخل هذه البلدان، عن قصد أو عن سذاجة، فهذا ما لن يجلب لهذه الأحزاب سوى الشبهات.