خطاب العقل والتعقل
مرة أخرى يعود الملك محمد السادس بإصرار إلى بسط يده للحوار بين المغرب والجزائر، وفتح الحدود المغلقة منذ 1994 بدون شروط مسبقة وبدون العودة للماضي وسياقاته. خطاب العرش لأول أمس واحد فقط من بين خطابات اليد الممدودة التي تبناها الملك محمد السادس قناعة مبدئية وليس دعاية ديبلوماسية، وطبعا لن يكون الخطاب الأخير حتى لو استمر الجيران في تعنتهم واستمرار ركوبهم موجة العداء والكراهية، ضاربا المثل بكون سياسة اليد الممدودة لا يوقفها موقف ولا زمن.
فحينما دعا الملك منذ خطاب فاس 2008 بمناسبة الذكرى 9 لاعتلائه العرش، إلى الحوار وفتح الحدود مهما كان اختلاف وجهات النظر في النزاع القائم، كان مقتنعا بأن سياسة اليد الممدودة قاسية على حكام الجزائر ولن تجد تجاوبا لحظيا، وهو بالفعل ما جرى، لكن ظل الملك يعاود المرة تلو الأخرى الدعوة إلى إعمال العقل والتعقل وتغليب مصلحة الشعوب على الحسابات الضيقة، ومن هذا المنطلق المبدئي أعاد الملك الدعوة نفسها في 2009 بمناسبة الذكرى 10 لجلوس الملك على العرش، وفي خطاب طنجة في 2011 بمناسبة الذكرى 12 لتوليه العرش، وفي خطاب 2014 حيث دعا الملك محمد السادس الجزائر أمام المجلس التأسيسي التونسي إلى فتح الحدود بين الدول المغاربية، وانتقد استمرار غلق الحدود والعمل بتأشيرات الدخول مع الجزائر، وفي خطاب المسيرة الخضراء لنونبر 2018، الذي طالب بفتح الحدود والحوار غير المشروط ووضع آلية تشاورية، وضمنها برقية تهنئة الملك لسنة 2019 التي دعا فيها الملك محمد السادس رئيس الجزائر عبد المجيد تبون إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين .
قد يفهم بعض ضعاف النفوس أن إصرار ملك المغرب على سياسة اليد المفتوحة ودعوة الجزائر للتوقف عن إنتاج المواقف السلبية، تعبير عن ضعف موقف وقلة حيلة، والحقيقة أن الدعوة إلى التقارب والتسامح والمصالحة تجعل ملك المغرب يتربع على موقع القوة، فقد كان بإمكانه، في سياق مشحون بالتوتر الحاد بين الرباط والجزائر ظل يتغذى لشعور وسنوات من خطاب الكراهية والعداء الذي ينتجه حكام الجارة الشرقية، أن يبادلهم التعامل بالعملة الرديئة نفسها، لكن ذلك لا يتماشى مع أخلاق الملكية الضاربة في التاريخ. فلا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن ملك البلاد يمثل مؤسسة وراثية عريقة محكومة بتقاليد وأعراف لن تسمح لها بالنزول للمناكفات السياسية والرد بالمثل، ولذلك ظلت الملكية، خصوصا في عهد الملك محمد السادس، في منأى عن خطاب إنتاج التجييش والكراهية وتصدير الأحقاد بين شعبين جارين يجمعهما أكثر مما يفرقهما بينما انغمس حكام الجزائر في مستنقع الإساءة والتحريض.
ولذلك، فعلى خلاف ما كان يتوقع حكام الجزائر والمتاجرون بسيادة الشعوب والجسم الدخيل، جاء الخطاب الملكي متساميا على الأزمات مشحونا بالدين والأخلاق والقومية العربية والمصالح المشتركة، ومتسلحا بالعقلانية والمعقولية ومتعاليا عن كل التفاهات اليومية والانفعالات الديبلوماسية، وهو ما يستحق من حكام الجزائر وحكمائها هذه المرة وقفة تأمل حقيقية.
واليوم توجد كرة المصالحة والتهدئة مرة أخرى بملعب قصر المرادية، ومهما كان تفاعل القوى الحاكمة في الجزائر فإن التاريخ والأمم والشعوب سيشهدون أن ملك المغرب رفض رد السيئة بسيئة أسوأ منها، وسيتذكر العالم أن جلالة الملك خاطب عقل النظام الجزائري وقلب الشعب، والتاريخ، بدون شك، سيسجل من كان يسعى للخير والوئام ومن يبث الشر والأحقاد.