شوف تشوف

الرأي

خصومة بريطانيا لموسكو

 

خالد فتحي

 

 

في السياسة الدولية، كل الخطوات التي تقوم بها الدول تحسب بدقة بالغة، وتخضع لمنطق المصلحة. فحتى العقيدة الإيديولوجية لم تعد تفعل فعلها في صنع قرارات الحكومات، وتحديد اصطفافاتها على الركح الدولي، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. خير مثال على هذا هو الموقف البريطاني المتشدد من روسيا، خلال الحرب الدائرة بأوكرانيا، والذي يدل عليه حماسها للحرب، الذي يفوق في حالتها مستوى التوجسات لدى الألمان والفرنسيين.

منذ اندلاع الأزمة، بدا واضحا أن بريطانيا ترى لها مآرب كثيرة تجنيها من وراء تسريع احتدامها وتأجيجها، لذلك رأيناها تهب إلى تنصيب نفسها عراب الولايات المتحدة بأوروبا، وتتحول إلى بوق لها تصرف التصريحات العدائية غير الديبلوماسية في نبرتها ضد بوتين، فتسكب الكثير من الزيت على النار الملتهبة. ثم لا تلبث أن تتطرف، وتفجر في الخصومة، إلى حد أنها لم تعد ترى نهاية لهذه الحرب من غير قطف رأس بوتين نفسه.

هناك بواعث كثيرة تفسر هذا الكم المتضخم من العداء البريطاني لموسكو:

أولا، نجد هذا الخوف الاستراتيجي لدى بريطانيا، منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي من أن تصبح روسيا بديلا أفضل منها بالاتحاد. لذلك هي تجهد نفسها لكي تبعد الشقة أكثر، بين الأوروبيين والروس. وبالتالي، وجدت في أزمة أوكرانيا تلك الفرصة التي كانت بانتظارها.

علينا أن نسترجع أنه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وجمهورياته الخمس عشرة تسقط تباعا في حضن الغرب، والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص. إذ لم يعد هناك تمايز إيديولوجي يمنع ذلك لا بالنسبة لشقيقات روسيا، ولا حتى روسيا الليبرالية نفسها.

هكذا صارت روسيا تملك نظريا هذا الحق كونها دولة أوروبية جغرافيا، أما ثقافيا وحضاريا فالاتحاد الأوروبي الذي هو مزيج من الهويات والشعوب واللغات، يمكنه أن يقبل بروسيا كأحد المكونات التي ستمده بأسباب قوة لا نظير لها، تستطيع أن تعتقه من السيطرة الأمريكية.. روسيا شاسعة جدا، وبلد غني بالنفط والغاز، كما أنها تملك أكبر ترسانة نووية في العالم، وفوق هذا تدين بالمسيحية ككل أوروبا.

من هنا نفهم لماذا تصر بريطانيا على أن تجهض للأبد انضمام روسيا إلى الاتحاد الأوروبي… وهذا العنت الذي تتكلفه لأجل أن تعدم هذه الفرضية.

تنتبه بريطانيا جيدا، ومنذ زمن، إلى الطموحات الفرنسية والألمانية التي كانت ذات يوم، لأجل أن تتجه أوروبا شرقا نحو موسكو. ألم يشر الرئيس الفرنسي، قبل جائحة كورونا بأشهر فقط، خلال اجتماع بسفراء بلده، إلى ضرورة مد اليد إلى روسيا، متحدثا عن قرب أفول شمس الغرب، وصعود قوى شرقية ممثلة في الهند والصين وروسيا، ينبغي أخذها بعين الاعتبار. مما شكل آنذاك إيذانا بأن فرنسا التي تحن دوما إلى زمن شارل دوغول، الذي تخففت فيه من الانجرار والموالاة بشيك على بياض لبلاد «العم سام»، تفكر في تعويض الانسحاب البريطاني بروسيا الأقوى من بريطانيا بكثير.

هناك حساسية كبيرة لبريطانيا تجاه روسيا، فكلاهما يبحث عن إحياء إمبراطورية آفلة، كما أن هناك احتكاكات طارئة بينهما سعرت هذه الخصومة من جديد، وأذكتها مرة أخرى، ومنها حادثة تسميم العميل سيرغي سكريبال ببريطانيا، التي اتهمت المخابرات الروسية بالضلوع فيها، وبعد ذلك تحرش السفن الروسية بحاملة الطائرات البريطانية إليزابيت.

والمتأمل للعلاقة الحميمية بين بريطانيا وأمريكا، يكتشف أن هناك شبه توزيع للأدوار بينهما في انتقاء الخصم رقم واحد، فبينما كانت أمريكا ترامب وبعده بايدن تركز على الصين، اختارت بريطانيا أن تستقصد بالخصومة موسكو، حتى إن بوريس جونسون جعل من ضمن ركائز العقيدة العسكرية التي صاغها بعد البريكست، من الروس التهديد الأول لأمن بريطانيا وأوروبا.

ولكن الحقيقة يبدو أنها تكمن في كون بريطانيا لا ترى حرجا في أن تكون تابعة لأمريكا. فالأخيرة ليست سوى سليلتها التي حملت عنها مشعل قيادة العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، ولذلك هي لا تريد بالخصوص أن تتنصل أوروبا من الوصاية الأمريكية، فتسعى إلى حسن البلاء في الدفاع عن أوكرانيا بالتصريحات المحرضة، كأنها تستقطب أصوات أوروبا الشرقية لفائدتها داخل الاتحاد الأوروبي، لتبقيه مذعورا خائفا لا يعرف النوم، إلا حين يضع رأسه فوق الوسادة الأمريكية.

المؤكد أن بريطانيا لا تقدر بمفردها على هزم روسيا المتفوقة عسكريا عليها، عددا وعدة، ولذلك اغتنمت فرصة هذه الحرب للتجييش ضد عدو لا تقوى عليه. هي تستطيع هذا التأليب، لأنها لا تحتاج الطاقة من روسيا كما باقي الدول الأوروبية، وتستبعد حدوث المواجهة التي ستعري ضعفها. إن بريطانيا، وبعد أن خسرت الكثير من نفوذها أوروبيا، تحث التهديدات، لكي تعوض الخصاص في المكانة والهيبة بالصياح واقتراح العقوبات القاسية، والمزايدة على الآخرين، في التطوع لأجل الحرب. إنها تقوم بهذا أيضا لكي تكون حاضرة في أي تقسيم للكعكة، حين حلول النظام الدولي القادم. إذ ما زالت أسيرة أحلام الأمجاد الذابلة، متطلعة لاستعادة الدور القديم الذي كان لها، حين لم تكن الشمس تغرب عنها، لكن قد يغيب عن بالها اليوم أن حسابات الحقل قد لا تساوي أحيانا محصول البيدر، خصوصا مع خصم كبوتين يبدو أنه أكثر عزما وتصميما على الثأر لنفسه ولبلاده، من احتقار وإهانات الغرب برمته.

نافذة:

هناك حساسية كبيرة لبريطانيا تجاه روسيا فكلاهما يبحث عن إحياء إمبراطورية آفلة كما أن هناك احتكاكات طارئة بينهما سعرت هذه الخصومة من جديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى