شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

خذلان غزة

جمانة فرحات

 

نحن الذين نكتفي بمشاهدة تحول غزة إلى مقبرة مفتوحة لأهلها نمتلك ترف الحديث أو الكتابة عن الوضع. نبني على ما يصل إلينا من مشاهد تنقلها شاشات التلفزة تظهر انغماس الاحتلال في إبادة القطاع بغطاء أميركي ودولي عريض، وإن بدأت أصوات بعض المسؤولين في الغرب تنادي، على حياء، بـ «ضبط» الحرب، لا وقفها. ننشغل في تحليل ما إذا كانت إسرائيل ستتمكن من تحقيق الأهداف التي وضعتها لحربها، وفي مقدمتها القضاء على حركة حماس، والانتقال إلى مرحلة ما بات يسمى «اليوم التالي»، ومن الذي سيقع الاختيار عليه لحكم غزة من على الدبابة الإسرائيلية. لكن ذلك كله لا يبدو سوى ترف الثرثرة فوق الجثة. ما يعيشه القطاع اليوم يتخطى كل ما عاناه سابقاً، أو هي المعاناة الممتدة سنوات وقد تكثفت وانفجرت دفعة واحدة في وجوههم ووجوهنا.

تتسرب إلينا صور المجازر. صرخات الأطفال وبكاؤهم. الأمهات والآباء والأبناء الذين يبحثون عن عائلاتهم بعد القصف ليعرفوا ما إذا كان قد بقي أي منهم على قيد الحياة، أو ما زالوا تحت الأنقاض لا تصل إليهم أي مساعدة. الأهالي الذين ينتظرون بالأيام للاطمئنان على ذويهم، رغم أن كيلومترات معدودة تفصل بعضهم عن بعض، بعد تعمد الاحتلال عزل القطاع وقطع الاتصالات.

تُشعرنا المجزرة المنقولة على الهواء بعجزنا، بضآلتنا وقلة حيلتنا. أكثر من شهر والمشهد لم يتغير. مدنيون عزل تحت رحمة وحوش إسرائيل. باسم الانتقام والثأر لـ «7 أكتوبر» يُقتلون، وبالأدق يبادون.

لا يسألهم الموت إن كانوا مستعدين. تختارهم القنابل أو تصطادهم. تُطاردهم حتى في لحظات نومهم أو تناولهم الطعام على ندرته. أما الأحياء منهم فمنفيون ومنكوبون، لا مهجرون ولا نازحون، فتلك ألفاظ تخفف من حجم المصيبة التي ألمت بهم. يعبرون الشوارع ووجوههم هائمة تختصر مأساتهم. كأنهم في مشهد سينمائي لم يكن يخطر في بال أحد أنه يمكن أن يتحقق على أرض الواقع في هذا القرن.

يقتربون من المجاعة. لا غذاء يتوفر ولا مياه صالحة للشرب. يروون كيف يضطرون لمحاولة تعقيم المياه الملوثة ولو جزئياً بغليها على الحطب، لا الغاز المفقود، ثم شربها. يُجبرون على استخدام مياه البحر للاستحمام وغسل ملابسهم. وحتى مضخات الصرف الصحي لم تسلم من البربرية الإسرائيلية. يريد الاحتلال للأحياء أن يعيشوا الجحيم مع كل نفَس، ومع كل لحظة يبقون فيها على قيد الحياة. … النجاة في هذه الحرب، ولو كانت مؤقتة ساعات إضافية أو أياما، ليست فعل مقاومة، بقدر ما هي مصادفة.

يجثم ثقل المجازر فوق صدورنا. نريد أن نصدق أن ضحاياها ليسوا أرقاماً. نقرأ ما يصل إلينا من قصصهم، أفكارهم، مخططاتهم لمستقبلهم وحياةٍ كانوا يظنون أنها لن تكون قصيرة، لكنها جميعها تبخرت. ينزفون ويموتون بمفردهم. حتى جثثهم لا تُنتشل بسهولة. أكثر من ألف مفقود حتى اللحظة تحت الأنقاض. دُفنوا تحتها ومعهم كل أحلامهم. عائلاتٌ بأكملها انتهت، أو كما اعتدنا العبارة التي تتكرر مع كل حربٍ في غزة «مُسحت من السجل المدني».

بلغ خذلان أهالي غزة مداه، وكأن لا دولة عربية تمتلك حدوداً مباشرة مع القطاع، ولديها معبر يمكن أن تفتحه وتكسر الحصار وتخفف المعاناة. وكأن لا دول عربية قادرة على اتخاذ موقفٍ ضاغطٍ على الولايات المتحدة، لتعديل موقفها قليلاً، إذ لا أحد يأمل أن تبدله كلياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى