خدم يا التاعس على الناعس
لدينا برلمانيون تقاضوا 14 مليونا تعويضا عن ثلاثة أشهر لم يشتغلوا فيها يوما واحدا، وبينما قرر برلمانيو بعض الفرق من الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي إعادة المبالغ التي صرفها لهم البرلمان تماشيا مع قاعدة الأجر مقابل العمل، فإن برلمانيي العدالة والتنمية الذين قال أمينهم العام بنكيران إن الاقتطاع من أجرة المضربين عن العمل مذكور في القرآن قرروا الاحتفاظ بتلك الأموال التي لم يعرقوا عليها، مع أن وزير المالية دلهم على الطريقة القانونية لإعادتها إلى خزينة الدولة.
وإذا كان برلمانيو حزب العدالة والتنمية قد قرروا أن يأكلوا أموال الناس بالباطل فإن أمينهم العام، ورئيس الحكومة المعين، قرر أن يمدد فترة عطالته المدفوعة الأجر من جيوب دافعي الضرائب عندما صرح بأنه ليست هناك أية مفاوضات لتشكيل الحكومة وأنه جالس في بيته بلا شغل ولا ينتظر أحدا لتشكيل الحكومة.
رئيس الحكومة يكلف المغاربة لوحده 13 مليونا شهريا، دون أن يشتغل، ناهيك عن وزراء تصريف «المكتاب» الذين يشكلون حكومته، فيما البرلمانيون يحصلون على 14 مليونا تعويضا عن راحة امتدت لثلاثة أشهر، في الوقت الذي يكشف فيه تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول التنمية في العالم القروي أن 79 بالمائة من سكان العالم القروي فقراء.
إن ما قاله مجلس نزار بركة زكاه تقرير صادر عن الأمم المتحدة هذه المرة يقول إن 60 بالمائة من المغاربة يعيشون في حالة حرمان، مما يعني أن وضع المغرب الصحي شبيه بوضع شخص مصاب بالشلل النصفي، يجرجر نصفه السليم نصفه المشلول كلما حاول أن يسير، والوصف الأنسب لهذه الوضعية هو المثل المغربي الذي يقول «خدم يا التاعس على الناعس»، لأنه بينما ينام بنكيران في بيته بدون شغل ويتقاضى راتبه كاملا هناك ملايين الفقراء الذين يكدحون لكي يوفروا له ولوزرائه الملايين التي تحتاجها رواتبهم.
خطورة هذا الاحتياطي الكبير من الفقر هو سهولة استغلاله من طرف الإرهابيين لتنفيذ مخططات تدميرية، وأيضا من طرف تجار الدين للنجاح في الانتخابات والوصول إلى مراكز الدولة.
وخلال الخمس سنوات التي تولى فيها حزب العدالة والتنمية الشأن الحكومي تم فيها تفقير الطبقة المتوسطة حتى داخل المدن، والنتيجة أن صندوق النقد الدولي يبارك اليوم قرارات الحكومة التقشفية التي ضربت التعليم والصحة العموميين لصالح القطاع الخاص استجابة لتعليمات الإدارة الأمريكية التي تؤمن بأن الديمقراطية هي صنو الليبرالية المتوحشة، وأن الفائز في الانتخابات في العالم العربي يجب أن يسهر على إبعاد الدولة عن كل القطاعات الضرورية التي تهم المواطن العادي، كالصحة والتعليم والبنى التحتية والماء والوقود وغيرها وتسليمها إلى شركات أمريكية عابرة للقارات.
يعني أن بنكيران وحزبه اشتغلوا لدى إدارة أوباما كوسطاء قاموا بالتدبير المفوض لاستكمال مخطط الإجهاز على الخدمات العمومية والذي كان بدأه والعلو وزير المالية والخوصصة الاتحادي.
ولو كان رئيس الحكومة المعين جادا في تحقيق العدالة الاجتماعية، مثلما ادعى في برنامجه الانتخابي، لكان أول قرار طبقه منذ وصوله إلى سدة الحكم هو تطبيق الضريبة على الثروة مثلما صنع الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران بمجرد وصوله إلى الحكم، وتخصيص عائدات تلك الضريبة لتطبيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والهشاشة والفوارق الطبقية.
الرئيس الفرنسي لم يفرض فقط ضريبة على الثروة بل ضريبة على علامات الثراء الظاهرة، فإذا كان من حق الأثرياء أن يتبجحوا بثرواتهم وأن يلبسوا ساعات الماس والذهب، ويركبوا سيارات الفيراري ولومبرغيني، ويقيموا لأبنائهم الأعراس بمأكولات مجلوبة من الخارج، فإن من حق الدولة أن تردعهم بهذه الضريبة حفاظا على السلم الاجتماعي.
فالحقد الطبقي هو أحد أكبر أعداء الاستقرار في أي بلد، وعندما يشاهد نصف المغاربة الفقراء كل هذا النعيم الذي ترفل فيه حفنة من الأثرياء دون أن يكونوا قادرين على تلبية مطالب أبنائهم الأساسية، فإن منسوب العنف يرتفع ويكثر معه السطو وسائر الجرائم.
عندنا في المغرب أصبح استفزاز الأغنياء للفقراء رياضة وطنية، فكل من استطاع أن يتسلق السلم الاجتماعي ونجح في التسلل الطبقي، يفكر أول ما يفكر فيه في استعراض ممتلكاته على الناس، وهذا ما يسمى الغنى الفاحش، وهذا الفحش يجب أن يتوقف، والطريقة الوحيدة لإيقافه هي فرض الضريبة عليه.
لكن السيد بنكيران استأسد فقط على الطبقة المتوسطة وطبقة الفقراء، أما الأغنياء فقد أعطاهم منذ تسلمه السلطة «شبر التيساع».
وهناك حوار مهم وشيق وعميق في أحد فصول مسرحية «المارد الأحمر» لكاتبها «أنطوان رولت»، يدور بين «مازاغين»، كبير الوزراء في حكومة الملك الشاب لويس الرابع عشر، المشهور بلقب «الملك الشمس»، و«كولبير» الطامح لوضع يده على وزارة المالية، يشرح بوضوح جد معاصر أسباب استهداف بنكيران للطبقة الوسطى واتكاله على ضرائبها لكي يمول بها مشاريعه الحزبية لمقايضة أصوات الطبقات المسحوقة بأصواتها .
وفي ثنايا الحوار يشتكي «كولبير» من كونه لم يعد قادرا على دس يده في جيوب المواطنين، وأنه ينتظر من المسؤول عن التموين أن يشرح له كيف يمكن للدولة أن تستمر في الإنفاق في وقت تغرق فيه وسط الديون حتى الأذنين.
فقال له «مازاغين»:
– عندما يكون المرء مجرد مواطن، ولا يجد مالا يدفعه مقابل ديونه، فإن الوضع الطبيعي هو أن يذهب إلى السجن، لكن عندما يتعلق الأمر بالدولة فالأمر يختلف. إذ لا يمكننا أن نرمي الدولة في السجن، وهكذا تستمر الدولة في الاستدانة أكثر فأكثر، كل الدول تصنع ذلك.
ويبدو أن «كولبير» لم يفهم قصد رئيسه «مازاغين»، فقال متسائلا:
– ومع ذلك نحتاج إلى المال، فكيف يمكننا الحصول عليه إذا كنا قد فرضنا على الشعب جميع الضرائب الممكنة والمتخيلة ؟
هنا أجاب «مازاغين»:
– الحل بسيط، نخلق ضرائب جديدة.
فانتفض «كولبير» وقال:
– لا يمكننا فرض ضرائب جديدة على الفقراء، فهم يرزحون تحت ضرائب كثيرة.
وكم كان مفاجئا بالنسبة لكولبير أن «مازاغين» اتفق معه في هذا الرأي، وقال له إن فرض المزيد من الضرائب على الفقراء أمر غير ممكن.
-الحل إذن هو فرض الضرائب على الأغنياء.
قال «كولبير» وهو يعتقد أنه أصاب الهدف، لكن «مازاغين» عالجه بجواب لم يكن ينتظره :
– ليس الأغنياء من يجب فرض المزيد من الضرائب عليهم، لأن فرض الضرائب على الأغنياء يجعلهم يتوقفون عن الإنفاق، فعندما ينفق مواطن غني فهو يضمن عيش مئات الفقراء.
وهنا أعطى «كولبير» حماره وطلب من «مازاغين» أن يشرح له كيف يمكن ملء صناديق الدولة الفارغة دون فرض ضرائب جديدة على الفقراء والأغنياء.
فقال «مازاغين»:
– هناك الكثير من الناس ليسوا فقراء وليسوا أغنياء يوجدون بين الاثنين، يتعلق الأمر بمواطنين فرنسيين يشتغلون ويحلمون بأن يصبحوا ذات يوم أغنياء ويخشون أن يتحولوا إلى فقراء، هؤلاء هم من يجب استهدافهم دائما بالمزيد من الضرائب، لأن مواطني هذه الطبقة الوسطى بقدر ما تأخذ منهم بقدر ما يضاعفون جهدهم في العمل لتعويض ما تأخذه الدولة منهم، إنهم الاحتياطي الذي لا ينفد.
إن ما قاله «مازاغين» للمسؤول عن التموين قبل أربعة قرون، في وقت كانت الدولة الفرنسية تعيش إحدى أعمق أزماتها المالية، هو نفسه ما قاله بنكيران رئيس الحكومة السابقة عندما قال أمام البرلمانيين إنه لم يفرض ضرائب على الأثرياء خوفا من توقيف عجلة الاقتصاد، ولذلك اختار المغاربة الذين لا يوجدون ضمن شريحة الفقراء مثلما لا يوجدون ضمن شريحة الأغنياء، أي أنه استهدف ما أسماه «مازاغين» الاحتياطي الذي لا ينفد.
والجميع يعطي اليوم إحصائيات حول نسبة الفقراء بالمغرب لكن الأغنياء لا أحد يتكلم عنهم، وحسب تقرير لبنك «كريدي سويس»، فالمليارديرات المغاربة زادت نسبتهم خلال سنة واحدة بحوالي 13 بالمائة.
فقد كان عددهم حسب هذا البنك السويسري سنة 2011 مليارديرا واحدا، لكن الرقم قفز في سنة 2012 إلى 14 مليارديرا.
وفي الوقت الذي تراجع فيه عدد المليارديرات الإيطاليين والفرنسيين والألمان والسويديين والكنديين والإسبان، نكتشف أن المغاربة، حسب تقرير بنك «كريدي سويس»، ينافسون الأمريكيين واليابانيين والإماراتيين بنسبة زيادة مثيرة للدهشة.
هؤلاء المليارديرات الذين يتكاثرون في بلد تتسع رقعة فقرائه يوما عن آخر لا يدخلون ضمن أولويات مصالح المراقبة الضريبية، ما يهم الحكومة هو استنزاف جيوب الطبقة المتوسطة التي أصبحت على حافة الفقر.
سكان هذه الطبقة الوسطى ليسوا ملائكة هم أيضا، فالخوف من الفقر والطمع في الاغتناء هو ما يدفع الكثير من سكان الطبقة الوسطى إلى اللجوء إلى كل الوسائل الكفيلة بتحقيق طموحهم وطرد هواجسهم، بما في ذلك الوسائل غير النظيفة، وهذا ما يفسر «تربع» المغرب على سلم الفساد والرشوة وباقي الآفات الاجتماعية التي ينتجها الطامعون في الثروة من أبناء هذه الطبقة المتوسطة.
ولهذا السبب لدينا طبقة وسطى كل هم بعض أبنائها هو الالتحاق بطبقة الأثرياء والركض أكثر ما يمكن بعيدا عن طبقة الفقراء.
رئيس الحكومة السابق عرف أن هذه الطبقة هي الضرع الطبيعي الذي يجب حلبه كما ينبغي، وبقدر ما يتعرض هذا الضرع للحلب بقدر ما يدر المزيد، لأن المحرك المدر للحليب عنده هو الخوف من الفقر والطمع في الثروة.
والطماع لا يقضي عليه سوى الكذاب، والسياسيون بارعون في الكذب. أليست السياسة، كما قال «بول فاليري»، هي فن مشاغلة الناس عما يهمهم بالكذب عليهم؟