قصص وزراء ومسؤولين عاشوا أيامهم الأخيرة بعيدا عن الوطن
قد تبدو الهجرة السرية إلى الضفة الأخرى أمرا مفهوما في ظل انتشار البطالة، وقد تكون هجرة الأدمغة إلى الخارج مجرد تحصيل حاصل أمام شح فرص العمل وإمكانية استكمال المشوار الأكاديمي، لكن الهجرة الاضطرارية للسياسيين تبقى عصية على الفهم، خاصة إذا كانوا من ذوي النفوذ والثروة والجاه والسلطة.
حين يشعر بعض السياسيين بحبل المساءلة يقترب من أعناقهم، يحزمون حقائبهم سرا ويرحلون سرا ويختفون عن الأنظار. ليس من السهل اتخاذ قرار الرحيل والعيش بعيدا عن الوطن، حتى ولو توفرت في بلد الاستقبال كل ظروف العيش الكريم، لكن هذه الفئة من علية القوم تخشى زوال نعمة السلطة والجاه وتضرب ألف حساب ليوم الحساب، لذا ليس أمامها إلا الرحيل والاختفاء عن أنظار وأصوات وأجهزة تطالب برؤوس أفرادها.
غير أن هناك فئة ثالثة اختارت الهجرة طوعا، وجعلت من بعض الدول الأوروبية بالخصوص ملاذا لها من عوادي السياسة، وفضلت استبدال جواز السفر وتغيير الانتماء، بل إن بعض المسؤولين الحكوميين لا يترددون في التنقل بين ضفتي القارتين بشكل يومي في ما يشبه «نافيت» الموظفين بين الرباط والدار البيضاء، فرغم أن البلد وهبهم كل شيء، الثروة والسلطة، إلا أنه لا يستحق أن يقيموا فيه، والغريب أن السلطة تشكو من ضعف الوطنية المغربية عند الشباب، في الوقت الذي يوجد فيه مسؤولون من العيار الثقيل يعانون من ضعف المناعة الوطنية، فلا يشعرون حتى بالانتماء إلى المغرب.
هناك قول شعبي مأثور «لا أحد يهرب من دار العرس»، لكن الكثير ممن راكموا الثروة والسلطة ونالوا جنسية وطن آخر أصروا على ألا يمنحوا مساقط رؤوسهم شرف الإقامة فيها، هم في نهاية المطاف مجبرون على أصعب اختيار لأنهم يرفضون العودة إلى نقطة الصفر، فيتحولون من عابري سبيل إلى لاجئين فارين من التضييق أكان سياسيا أو قضائيا.
في هذا الملف سنسلط الضوء على حكايات من أوراق الاغتراب الاضطراري، ونعيد ترتيب الساعات الأخيرة من حياة شخصيات اختارت العيش خارج جغرافية وتاريخ بلدها الأصلي.
مولاي الزين الزاهيدي.. وزير محكوم غيابيا يلفظ أنفاسه بالمهجر
نسي الناس مولاي الزين الزاهيدي، الوزير الأسبق والرئيس الأسبق لبنك القرض العقاري والسياحي، ولولا قصاصة أنباء كشفت عن وفاته لسقط الرجل من الذاكرة، بعد أن اختار المغادرة الجبرية لوطنه. لم يكن الزاهيدي مجرد مدير اختار الهروب، بعد أن طوقته الأسئلة المقلقة. بل كان رجل دولة، حيث شارك في حكومة كريم العمراني الثالثة والرابعة والخامسة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، إذ شغل منصب وزير الشغل والإنعاش الوطني في الفترة ما بين 1983- 1985، ثم وزيرا منتدبا للشؤون الاقتصادية ما بين 1985- 1992، وتولى كذلك وزارة الصناعة والتجارة والخوصصة من سنة 1992 إلى سنة 1993.
من منا لا يذكر مولاي الزين الزاهيدي، زعيم الروتاري في الثمانينات، وصاحب المبادرات الاجتماعية «الهاي كلاس»، لقد كان الرجل أحد خدام الدولة الأساسيين في حكومات عهد الحسن الثاني، لكن عبوره في «السياش» بعثر كل أوراقه، ما اضطره إلى الاختفاء عن الأنظار في المغرب أولا، قبل أن يتدبر وسيلة للهروب إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، حيث استقر ما بين إسبانيا والبرتغال، بحكم زواجه من برتغالية.
بدأت معاناته حين حلت لجنة برلمانية صيف سنة 2000 بالبنك الذي يرأسه، جاءت لتحقق في اختلالات في التدبير المالي لهذا المرفق المالي، وأقر تقرير اللجنة البرلمانية بوجود اختلاسات ومخالفات في الفترة ما بين 1985 و1999، ما أدى إلى عرض الملف على القضاء، والذي حكم غيابيا على مولاي الزين الزاهيدي بعشر سنوات سجنا، إذ توبع ومن معه بجنحة استغلال النفوذ والمشاركة في تبديد أموال عمومية.
في سنة 2002، أجرت «لوجورنال» حوارا مع مولاي الزين الزاهيدي، المدير الأسبق للقرض العقاري والسياحي، وكان مختفيا في مكان مجهول لم تفصح عنه المجلة، كشف خلاله عن أقواله أمام لجنة تقصي الحقائق البرلمانية وأمام الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، مشيرا إلى أن أقواله لم تؤخذ بعين الاعتبار، خاصة بعد أن وضع النقاط على حروف ملف المشروع السياحي «كثبان النخيل»، الذي شكل الجزء الأكبر في المساءلة.
ويبدو أن زوجة الزاهيدي البرتغالية الجنسية، هي التي نسقت مع «لوجورنال» كي يكشف الحوار عن وثائق من جهات نافذة، ظلت تطالب زوجها بتليين المساطر مع البعض.
عبد اللطيف الفيلالي.. هجرة طوعية إلى فرنسا وغضب من رفاق الأمس
عاش عبد اللطيف الفيلالي سنواته الأخيرة في فرنسا، التي اختار العودة إليها متقاعدا، بعدما عاش فيها وهو طالب. ظل الرجل يقضي أوقاته في العلاج وتناول الأدوية وقراءة الصحف والمجلات الفرنسية، وبين الفينة والأخرى تقوده زوجته الإيطالية إلى منتجع لتغيير أجواء البيت ورائحة الدواء.
ظل الرجل يخفي قلقا دفينا من رفاق الأمس، ولا يتردد في إبداء غضبه كلما علم بموقف عدد كبير من رجالات الطبقة السياسية الذين أداروا ظهورهم له، منذ أن تخلص من السلطة والمناصب أو تخلصت منه.
في صباح 20 مارس سنة 2009، أعلنت إدارة مستشفى أنطوان بيكلير في كلامار بضاحية العاصمة الفرنسية، وفاة عبد اللطيف الفيلالي، الوزير الأول المغربي الأسبق، عن عمر ناهز 81 سنة، بعد أن توقف قلبه عن النبض. كانت أسرته تحاول تطويق الخبر بعدما هرع رجال الصحافة إلى عين المكان للوقوف على تفاصيل الوفاة التي لم تكن مفاجئة، بالنظر إلى تدهور الوضع الصحي للفيلالي، الذي عجز في آخر أيامه عن النطق وأصيب بشلل نصفي.
في الأيام الأخيرة من حياة عبد اللطيف، كان الرجل يفضل قراءة القرآن الكريم، وسماع تراتيل المشارقة، دون أن يمل من إعادة متابعة آخر لقاءاته الصحفية، وتصفح بعض الصور القديمة، إلا أنه وبتعليمات طبية كان ممنوعا من إجراء اللقاءات الصحفية التي تجعله يستحضر فترات حكمه، كي لا يزداد وضعه الصحي تأثرا.
قال بيان المصحة الفرنسية، إن «اعتلالا شديدا قد طرأ على حالته الصحية نتيجة هبوط في ضغط الدم». وكانت أسرته قد بادرت إلى نقله إلى المصحة التي تابع فيها علاجه، وهو في شبه غيبوبة بعد أن دخل في مراحل حرجة من المرض، الذي يعتبر من مضاعفات الحادث المروري الذي تعرض له في التسعينات من القرن الماضي، وأصبح إثره يجد صعوبة في التحرك دون الاستعانة بكرسي متحرك.
اعتزل عبد اللطيف الفيلالي السياسة وآثر الابتعاد عن أجوائها في بلده، في ما يشبه الاغتراب، إذ عاش أيامه الأخيرة إلى جانب زوجته الإيطالية التي أنجب منها ابنين، هما ياسمينة وفؤاد.
شعر الرجل بتراجع رهيب في سلم الوجاهة، منذ أن تسلم منه عبد الرحمن اليوسفي مقاليد رئاسة الحكومة، محتفظا في حكومته بحقيبة الخارجية التي لم يستمر فيها طويلا، فاستبدله الملك الراحل قبل وفاته بشهور، بمحمد بن عيسى، وفي منفاه الاختياري انكب على تأليف كتاب «المغرب والعالم العربي»، تضمن آراء مثيرة، مثل قوله إنه «لا يوجد شيء اسمه العالم العربي إلا في الخيال».
غادر الفيلالي المغرب في صمت وقرر اعتزال السياسة، وفي باريس ظل يتابع المشهد المغربي في هدوء، وكان آخر ظهور إعلامي له قبل الرحيل في حلقات برنامج «زيارة خاصة»، الذي أذاعته قناة «الجزيرة». حيث بدا الرجل في وضع صحي جد متدهور، بل إن الكثير من المغاربة الذين تابعوا البرنامج تأسفوا للوضع الصحي للوزير السابق، بل منهم من لم يتعرف عليه إلا بعد أن ظهر اسمه على شاشة التلفزيون.
كانت زوجته تود دفن جثمان الوزير في فرنسا أو إيطاليا، لكن بعد مشاورات طويلة وبعد مرور يومين على رحيله، نقل الجثمان إلى العاصمة الرباط، حيث جرت مراسيم الدفن بمقبرة شالة، حيث ووري الثرى بحضور أفراد أسرته والوزير الأول الأسبق، عباس الفاسي، ومستشاري الملك والحاجب الملكي إبراهيم فرج وعدد من أعضاء الحكومة. وخلال مراسيم دفن الراحل عبد اللطيف الفيلالي، لوحظ أن العملية تمت دون إزالة اللوحة المعدنية، التي تحمل اسمه وتاريخ ولادته ووفاته باللغة الفرنسية. وقد تساءل بعض الحاضرين عن سبب دفن الراحل باسمه مكتوبا بالفرنسية، في الوقت الذي كان يجب فيه على عائلته الانتباه إلى هذه التفاصيل، وتعويض تلك اللوحة الفرنسية بلوحة أخرى تحمل آية الكرسي أو «إنا لله وإنا إليه راجعون»، دون أن يجدوا جوابا عن السؤال.
الخطابي زعيم الريف الذي لم تتحقق أمنية نقل جثمانه إلى أجدير
لم تنته معاناة زعيم الريف محمد عبد الكريم الخطابي بوفاته في المهجر، بل ظلت قائمة حتى بعد أن اختار لنفسه قبرا في مقبرة الشهداء بالعباسية وسط مدينة القاهرة، بعد فشلت جميع محاولات نقل قبره إلى معقله في أجدير.
اعتقل محمد بن عبد الكريم الخطابي، ونفي إلى جزيرة «لاريونيون» التي ظل بها من سنة 1925 إلى سنة 1947، قبل أن يستقر في مصر لاجئا سياسيا، إلى أن توفي في القاهرة في اليوم السادس من شهر فبراير 1963، حيث دفن في مقبرة الشهداء بالعاصمة المصرية. قبل تسع سنوات أعلنت هيئة الإنصاف والمصالحة عزمها إعادة رفات الأمير الخطابي إلى المغرب، بعد لقاء جمع أسرة الزعيم الريفي بالمرحوم إدريس بنزكري وأعضاء من هيئة الإنصاف والمصالحة، لكن الفكرة ماتت بموت الهيئة، قبل أن يتجدد المطلب من نجل الخطابي، حين التقى الملك محمد السادس بالقاهرة.
خلال فترة لجوئه إلى مصر ظل الزعيم مصدر إزعاج للملك فاروق، وفي سنة 1952 بارك الخطابي سقوط الملكية في مصر، وأشاد بشجاعة الضباط الأحرار، وهو الموقف الذي أغضب قيادات الحركة الوطنية في ما كان يعرف بمكتب المغرب العربي بالقاهرة، «الذين رأوا في موقف الخطابي «سلوكا غير مقبول من رجل ينتمي إلى بلد يتزعمه ملك»».
ولدفع الغضب وتليين المواقف بين الرباط والقاهرة، قام عبد الخالق الطريس الذي كان سفيرا للمغرب في مصر، ببرمجة لقاء بين الملك محمد الخامس إثر زيارة هذا الأخير إلى القاهرة في 13 يناير 1960، وعبد الكريم الخطابي، وفعلا زار الملك بيت الخطابي وجالسه لمدة تزيد عن الساعتين، حيث تحدثا عن المشهد السياسي المغربي، كما تقول نجلته عائشة: «تحدثا عن الوضع العام في المغرب، وعن العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية. وكان محمد الخامس يسعى إلى إقناع «الأمير» بالعودة إلى المغرب، لكن رد الوالد كان أنه لن يعود إلى المغرب حتى يعرف مصير المختطفين الذين ذهبوا ضحية الاختطافات التي عرفها المغرب، بعد انتفاضة الريف سنة 1958، كما طالب بفتح تحقيق بخصوصها».
زاد التوتر بين الرباط والقاهرة بعد وفاة الملك محمد الخامس، وحين تولى الحسن الثاني عرش المملكة، زار القاهرة دون أن يزور «أمير الريف»، مما أحدث جرحا دفينا في نفس الخطابي، ولعل مبعث قلق الملك يعود إلى معارضة زعيم الريف لدستور 1962. وعلى امتداد شهور ظل يعاني من الألم الجسدي والنفسي إلى أن توفي بعد سنة، دون أن تحقق أمنيته بالدفن في تربة أجدير.
ظلت ابنته عائشة «تطالب بنقل رفات والدها الفقيد، من مقبرة الشهداء بالعباسية في العاصمة المصرية القاهرة إلى المغرب، وإقامة قبر يليق بمقامه في بلدته أجدير وبناء مكتبة حول القبر».
المدني بن حيون.. حقيقة هروب بسبب «جريمة الإخلاص»
عرف أحمد المدني بن حيون الوجدي الانتماء بجرعات الانضباط الزائدة، كان شرقي المواقف لا يتردد في الضرب بيد من حديد على كل من خرج عن النص. ويبدو أن تعليمه العسكري، ساهم إلى حد كبير في بناء شخصية ذات كاريزما عالية الصبيب.
قصة رجل السلطة المدني بدأت حين تخرج من المدرسة العسكرية بمكناس سنة 1927 برتبة ضابط، انضم إلى القوات الفرنسية في معاركها الرامية إلى إخماد الثورات في الأطلس المتوسط والكبير، وهنا لفت نظر الحماية الفرنسية وقررت تعيينه على رأس عمالة أكادير كباشا برتبة عقيد، واستمر في مهامه إلى حين بزوغ فجر الاستقلال.
في زوال يوم الأربعاء سابع دجنبر 1955، أقلعت الطائرة التي أقلته إلى فرنسا هاربا من تهديدات «المقاومين»، يقول المدني في كتابه «جريمة الإخلاص»، الذي يروي فيه قصة الرحيل: «انتابني حنين حزين ومؤلم. وداعا والداي، وداعا عائلتي، وأصدقائي، وداعا أيها المغرب، حيث ولدت، البلد الذي خدمته بحياتي وأعطيته كل ما ملكت من قوة وشجاعة من أجل أن يكون هادئا وموحدا».
مباشرة بعد حصول المغرب على استقلاله، غادر المغرب وتوجه إلى القيادة العليا للجيش الفرنسي طالبا العودة إلى الخدمة العسكرية كعقيد، بعد أن أيقن أن الرجوع إلى المغرب ضرب من المستحيل، في زمن لم يكن فيه الوطن غفورا رحيما.
لكن لماذا قطع أحمد المدني خيط الوصال واختار الرحيل؟
حسب الكاتبة ميمون أم العيد، فإن اصطفافه في طابور ما كان يسمى حفظة العرش هو الذي رمى به نحو المجهول، إذ يقول الكولونيل، عن لقاء جمعه في دار المخزن بالرباط يوم 26 أكتوبر 1955، بغاية تكوين حكومة: «لذا فضل الهروب بجلده إلى فرنسا، حتى لا تتم تصفيته كما حدث لقياد تعاونوا مع الفرنسيين زمن الحماية، مباشرة بعد عودة محمد الخامس إلى المغرب، وتجريده من ممتلكاته ومن الجنسية المغربية سنة 1958. وحتى بعد صدور قرار من الملك الراحل الحسن الثاني بالعفو سنة 1965 عن القياد والباشوات الذين تعاونوا مع فرنسا، فإن المدني لم يستفد من هذا العفو، وبقيت ممتلكاته مصادرة».
لكن تصفية بعض قياد الاستعمار، ووضعه ضمن لائحة المستهدفين عجلا بهروبه من المغرب، وهو الذي حاول أن يأخذ الإذن من محمد الخامس، قال للمقيم العام بشأنه وقتها، إن الحكومة هي التي سوف تتخذ القرار بشأنه، فاستأذن من «البكاي» بأن يسمح له بمغادرة المغرب، ومع ذلك فقد تم إدراج اسمه ضمن المحكومين بتهمة الخيانة، وتم تجريده من جنسيته لمدة 15 عاما، ومن ممتلكاته في قرار صدر بالجريدة الرسمية في 23 غشت 1958.
إذا كان باشا أكادير قد اختار المنفى الاختياري، إلا أن نجليه إدريس والتيجاني فضلا العودة إلى المغرب، في منتصف السبعينات، حيث تأبطا ملف والدهما ودافعا عنه قدر الإمكان.
توفي العقيد الهارب سنة 1992 بفرنسا وهو في عمر التسعين سنة، وكل أمله أن يتوفق ابناه في الحصول على شهادة رد الاعتبار.
عبد الفتاح فرج.. مدير الكتابة الخاصة للملك يدفن بمقبرة مسيحية بألمانيا
بعد موت الملك الحسن الثاني بدأ سكرتيره عبد الفتاح فرج في ترتيب مغادرته للمغرب، مغادرة يقول ابنه بالتبني حسن إنها اكتست عملية الهروب. هاجر الرجل إلى ألمانيا رفقة زوجته الألمانية الجنسية، والتي أصبحت تحمل اسم غيثة بعد إسلامها، بعدما حول أموالا طائلة وكدسها في حسابات بنكية في أوروبا، وبعد أربع سنوات مات تحديدا سنة 2005، وتقرر دفنه في مدينة صغيرة تدعى «أولم»، فيما ظلت الأموال تحت تصرف الزوجة الألمانية.
في حوار مع «الأخبار» أنجزه زميلنا يونس جنوحي، كشف حسن فرج، الابن بالتبني، عن نهاية عبد الفتاح الهارب، وقصة مرضه الذي عطل حواسه، قبل أن ينتهي جثة هامدة ويتقرر دفنه في مقبرة مسيحية رغم أنه مسلم.
«في الحقيقة هناك أمور علمتها من أمي في أيامها الأخيرة، حول ما قام به عبد الفتاح فرج في السنة الأخيرة في منصبه كمدير للكتابة الخاصة للملك الحسن الثاني، وأيضا بعد مغادرته المنصب عقب وفاة الملك. عثرت أيضا بين أوراقه التي تركها خلفه في المغرب، ووجدتها بعد عودتي، على معلومات حول ما كان يقوم به لتدبير أمواله قبل أن يغادر المغرب، من قبيل فيلا الصخيرات التي باعها، وفيلا أخرى أعطاها لأحدهم، مقابل تأمين خروجه من المغرب بعدما أحس بأنه يجب أن يرحل حفاظا على الثروة التي راكمها، بفضل ثقة الملك الحسن الثاني فيه».
كون سكرتير الملك ثروة ضخمة للغاية، إلى درجة أن شخصيات مهمة في الدولة، بعد وفاة الملك الحسن الثاني، زارته في ألمانيا، لتناقش معه مسألة إرجاع ما أخذه معه من أموال، وما يتوفر عليه في أبناك سويسرا من ملايير داخل حسابات بنكية فتحها بنفسه. لكنه لم يرجع أي شيء، بل عقد مسألة الإرث بعد رحيله بسبب الوصية التي كتبها بخط يده، حيث برزت الخلافات العائلية حول اقتسام تركة عبد الفتاح فرج.
بن غبريط: الوزير الشرفي الذي حارب المسلمين ودفن في مسجد باريس
ولد قدور بن غبريط في الجزائر وتحديدا بمدينة سيدي بلعباس سنة 1873، من عائلة نازحة من الأندلس، لكنه تحول من داعية إسلامي إلى مخبر في صفوف الجهاز الاستعماري الفرنسي، الذي ألحقه بالإدارة كمترجم أولا لإلمامه باللغات الحية والميتة، قبل أن ينتهي به المطاف جنرالا في الجيش الفرنسي، وهي رتبة أنعمت بها فرنسا على رجل خدمها.
علاقة هذا الرجل بالمغرب تعود إلى سنة 1893، حين أرسلته السلطات الاستعمارية إلى مدينة طنجة ليشتغل كمترجم في بعثتها، وانتدب لحضور اجتماع رسم الحدود بين المغرب والجزائر في مدينة لالة مغنية، لكن دوره كبر عندما وضعت فرنسا يدها على المغرب، فكان بن غبريط إحدى وسائلها للضغط على السلطان المغربي عبد الحفيظ للتوقيع على «معاهدة الحماية»، التي فرضتها فرنسا على المغرب في 30 مارس 1912.
شرب الرجل حب فرنسا من ثدي الإقامة العامة، وتحول إلى أمين على مصالح الفرنسيين، بل إنه وصف بالفرنسي الأكثر عشقا للجمهورية من الفرنسيين أنفسهم. الغريب في مسار هذا المخبر أن يتولى في نهاية مشواره إدارة مسجد باريس ويدفن بداخله.
قال عنه القبطان بول مارتي، مدير ثانوية مولاي إدريس بفاس، في مذكراته: «كان بن غبريط مخبرا لفرنسا في طنجة وفاس، قبل احتلالها للمغرب بنحو عقدين، ومنذ مطلع القرن العشرين وهو حاضر في اللقاءات الدبلوماسية المخزنية، مما أتاح له فرصة التآمر على السلطان مولاي عبد الحفيظ والضغط عليه للاستنجاد بالجيش الفرنسي، لإنقاذ الموقف وتوقيع عقد الحماية المشؤوم سنة 1912، ثم التنازل عن العرش. ونال مقابل خدماته الدنيئة للفرنسيين، طيلة نصف قرن، مناصب هامة منها رئيس جمعية الأحباس بالحرمين الشريفين، ومدير المعهد الإسلامي ومسجد باريس، ثم وزير فرنسا الشرفي المفوض».
لحسن حظه أنه توفي، قبل أيام من بزوغ فجر الاستقلال.
محمد بن عرفة.. «سلطان» مرفوض بالمغرب حيا وميتا
في منتصف شهر غشت 1953 جرت مراسيم تنصيب محمد بن عرفة سلطانا بديلا لمحمد الخامس، الذي نفته سلطات الحماية إلى كورسيكا ومنها إلى مدغشقر، وتبين للإقامة العامة أن السلطان الجديد هو الرجل المناسب للظرفية المناسبة، خاصة وأن شرط الانتماء للأسرة العلوية كان متوفرا، إلى جانب استعداده لمباركة جميع قرارات الجنرال غيوم وأعوانه المغاربة والفرنسيين.
لكن الرجل الذي كانت الصلوات تقام باسمه في مساجد المملكة الشريفة وتختم بالدعاء له على امتداد سنتين، سرعان ما عاش منبوذا، منذ أن عاد السلطان محمد الخامس إلى عرشه، فبعد أقل من عشرين يوما على استقلال المغرب، هرب بن عرفة وأبناؤه وخدمه إلى طنجة، حيث استقر بها مستفيدا من وضعها الدولي. لكن ما أن استرجع المغرب سيطرته على المدينة، حتى حزم حقائبه من جديد وشد الرحال صوب فرنسا، بعد أن استجابت هذه الأخيرة لملتمسه ووفرت له سكنا في مدينة نيس. الأمور تغيرت بسرعة وصارت عاصمة البوغاز مغربية، فوجد نفسه مضطرا إلى مغادرة البلاد التي تربع على عرشها سنتين، إلى مدينة نيس حيث وفر له الفرنسيون مسكنا يليق بمتعاون مخلص.
عاش بن عرفة تحت الحراسة الفرنسية، بينما اختار ابنه الأكبر الاستقرار في مدريد ومنها ظل يرسل ملتمسات الصفح إلى الملك الحسن الثاني، وبفضل تدخل وزير العدل الأسبق مصطفى بلعربي العلوي، عاد الابن إلى طنجة ليسكن في البيت الذي لجأ إليه والده لمدة قصيرة، لكن الحسن الثاني رفض تمتيع والده وابنه الثاني، الذي سكن معه في القصر الملكي بالرباط بالعفو، وفي فترات لاحقة سيشمل الصفح بنات بن عرفة.
في يوليوز 1976، مات السلطان المخلوع عن عمر يناهز 90 عاما، حاول أبناؤه انتزاع عطف ملكي لترجمة وصية الراحل، لكن الحسن الثاني جدد رفضه وقال لمخاطبيه، إن تربة المغرب الطاهرة ترفض وجوده داخلها. لذا ظلت جثته ترقد في جوف مسجد في مدينة نيس لمدة عامين، عقابا له على خلافة السلطان محمد الخامس الذي قيل إنه كان على وشك الصفح عليه. وبموازاة مع ذلك كثف الفرنسيون وأهالي بن عرفة محاولاتهم لانتزاع ترخيص بالدفن، قبل أن يسمح الملك الحسن الثاني بنقل الجثة سرا إلى البلاد، حيث دفنت في مقبرة صغيرة بباب الماكينة بفاس في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، أي بعد مرور عشر سنوات على موت الملك «الاحتياطي». نقل رفات محمد بن عرفة إلى فاس، وهي المدينة التي ولد فيها سنة 1886، ودفن في قبر مجهول لا يحمل أي شاهد بمقبرة باب الماكينة العتيقة، وقد تكلف الراحل إدريس البصري حينها بإجراءات النقل والدفن في سرية تامة، حيث عومل في مماته كمواطن خان العرش، بعد أن ساهمت عودة محمد الخامس من منفاه في «كنس» بن عرفة من الأذهان.
قصة هروب عبد الرحمن الحجوي مدير التشريفات إلى فرنسا
عندما استعاد المغرب استقلاله، بدأت عملية محاسبة الراعين الأساسيين للمستعمر الفرنسي، كان مطلب الحركة الوطنية واحدا: إنشاء «لجنة تطهير الخونة»، تلاه إصدار لائحة بأسماء مجموعة من الأشخاص المتهمين بـ«خيانة الوطن»، وأعقب ذلك لائحة بالأسماء وبالعقوبات، مع إعطاء فرصة الاستئناف أمام الملك، بعدها صدرت اللائحة النهائية في الجريدة الرسمية مرفوقة بقوانين لتقنين آليات المصادرة.
وقد صنفت «لجنة تطهير الخونة» عبد الرحمن الحجوي ضمن لائحة الأشخاص، الذين صدر في حقهم حكم «عدم الأهلية الوطنية، والتجريد من كافة حقوق المواطنين لمدة خمسة عشر عاما، ومصادرة جميع أملاكهم». وفي سنة 1963 صدر عفو ملكي عن غالبية الأشخاص المحالين على لجنة البحث، لكن ما زالت الكثير من الأسر تبحث عن حل لمصادرة ممتلكاتها وتطالب بجبر الضرر، لكن صدور العفو لا مبرر له في ظل وجود وقائع اغتناء شخصيات ساندت المستعمر واعتقدت أن دوامه في الحكم لا ريب فيه.
كان عبد الرحمن الحجوي قد عين في منصب مدير للتشريفات في قصر بن عرفة، إذ كان مساندا لصنيعة المستعمر وأكثر مقربيه تشددا، «كان يكتب افتتاحيات تمجد الاستعمار الفرنسي وتؤيد نفي السلطان محمد الخامس، وحين أدار جريدة «السعادة»، التي كانت تعد لسان الإقامة العامة الفرنسية، وفي إحدى الافتتاحيات كتب كلاما استغرب له الجميع، وقال إن العهد الجديد قضى باعتلاء بن عرفة للعرش، الملوك تتبدل والعرش يبقى في الأسرة العلوية»، كما جاء في تقرير «لجنة تطهير الخونة».
فر عبد الرحمن الحجوي إلى فرنسا بمساعدة الفرنسيين الذين كانوا يقيمون بالمغرب ويدافعون عن أن يبقى بن عرفة سلطانا للبلد، صودرت أملاكه التي لم يتمكن من تهريبها إلى فرنسا، أراض ومنازل صعب عليه بيعها، فتمت مصادرتها تارة ونهبها تارة أخرى.