خبايا من الصندوق الأسود للنقابات
يونس جنوحي
إليكم هذه الشهادة التي أدلى بها الراحل عبد الله إبراهيم الذي كان وزيرا للشغل سنة 1956:
«عندما استلمت مسؤولية وزارة الشغل والشؤون الاجتماعية في حكومة البكاي الثانية، وجدت نفسي مضطرا لخوض معركة حامية الوطيس على واجهة إصدار التشريع الوطني الخاص بالنقابات على عهد الاستقلال، كأولى الأولويات على هذه الواجهة.
لقد وجدت موظفا فرنسيا واكب التشريعات الخاصة بالعمل النقابي في المغرب منذ 1920، وإلى جانبه حوالي سبعة من المستشارين الفرنسيين، وبذلك كانوا يشكلون طاقما عنيدا يستحيل التفاهم معه».
أما في ماضي العمل النقابي المغربي، قبل أن يتأسس الاتحاد المغربي للشغل سنة 1955، فإنه كان محط كثير من التأويلات والتساؤلات أيضا. إذ رغم أن الحركة الوطنية قد سجلت رفضها لما كانت تقوم به المعامل الفرنسية في محوري الدار البيضاء والرباط، إلا أنها ظلت بعيدة عن العمل النقابي ما بين فترة 1920 و1956، حتى أن بعض المحافظين من منظّري حزب الاستقلال كانوا يرفضون فكرة العمل النقابي ويربطون بينها وبين «الشيوعية»، ويهاجمون الحزب الشيوعي المغربي الذي كان يدافع أساسا على حقوق العمال، وأخذوا مسافة من تلك الأنشطة إلى أن تطورت الساحة السياسية المغربية مع بداية الخمسينيات وكان لا بد من الانكباب على العمل النقابي خصوصا بعد أحداث تونس بعد اغتيال النقابي فرحات حشاد سنة 1952 وخروج مظاهرات في المغرب تنديدا باغتياله حيث كانت أصابع الاتهام تشير إلى فرنسا.
الأوراق المنسية للنقابيين المغاربة
هل كانت هناك حياة نقابية في المغرب قبل التأسيس الرسمي للاتحاد المغربي للشغل؟
في مارس 1955 تأسس هذا الذراع النقابي الذي جمع وجوها من حزب الاستقلال حيث قادوا المظاهرات في الدار البيضاء والدار البيضاء ومنها إلى بقية المدن المغربية الأخرى التي فتحت فيها فروع للنقابة، التي لم يكن الكثيرون يميزون بينها وبين حزب الاستقلال، حيث كان علال الفاسي يطغى على المحجوب بن الصديق الذي ترأس النقابة.
المخابرات الفرنسية كان لديها ملف أسود ضد المحجوب بن الصديق، إذ أنه كان من المتابعين في قضايا «تكوين عصابات إجرامية وحيازة السلاح والذخيرة الحية والسطو». وهي تهمة وجهها البوليس الفرنسي لعدد من قدماء المقاومة المغربية. وهكذا بقي ملف المحجوب بن الصديق مع الفرنسيين ملطخا بهذه التهمة التي جرّها عليه الكفاح المسلح. إذ أن جل المنتمين إلى خلايا المقاومة، كانوا يشكلون نواة العمل النقابي التابع لحزب الاستقلال. لكن كيف كان العمال المغاربة يدافعون عن حقوقهم قبل تأسيس الاتحاد المغربي للشغل؟
أكبر دليل على أن المغاربة كانوا على وعي بالعمل النقابي، هي المظاهرات التي عرفها المغرب على إثر وصول خبر استشهاد فرحات حشاد بسبب نشاطه النقابي في تونس. ورغم التعتيم الإعلامي الذي حاولت فرنسا ممارسته في الرباط، إلا أن وفاة فرحات حشاد في الأسبوع الأول من دجنبر 1952، ثلاث سنوات قبل تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، كان له وقع كبير في المغرب. آذان المغاربة وأفئدتهم التصقت بأجهزة الراديو، خصوصا راديو تونس وراديو لندن لمتابعة التطورات هناك. خروج المظاهرات الحاشدة التي تطورت إلى مطاردات واعتقالات لمتزعمي الاحتجاج واغتيالات أيضا بعد استعمال الشرطة الفرنسية للرصاص في عدد من المواقع لتفريق المتظاهرين، كانت كلها إشارات قوية إلى أن العمل النقابي في المغرب سوف يصبح رسميا لا محالة بعد سنوات من العمل الخفي في إطار نقابة العمال الفرنسية التي كانت تنوب عن العمال المغرب وإن بصورة محتشمة مقارنة مع طريقة تدبيرها لملفات العمال الفرنسيين في المغرب.
ملف آخر، يتعلق بالعمال المغاربة في فرنسا، خصوصا سنة 1954، والذين شاركوا في ترميم دمار الحرب العالمية الثانية، كانوا أيضا موضوع نقاش نقابي كبير في فرنسا خصوصا من طرف الأحزاب التقدمية التي عارضت اليمين الفرنسي الرافض لإشراك هؤلاء العمال في الملفات المطلبية بتحسين جودة العمل ورفع الأجور، في مواجهة الأزمة التي عاشتها فرنسا بعد الحرب.
ورغم ذلك فإن هؤلاء العمال شكلوا نواة العمل النقابي المغربي في بداياته، لأنهم دافعوا عن حقوقهم في الإدماج والاستفادة من الترقيات وتسوية وضعيتهم الإدارية حيث قضوا سنوات في خدمة الشركات الفرنسية. هؤلاء العمال، عندما عاودت فرنسا فتح باب استقدام اليد العاملة من المغرب في مجال المناجم والطرق والبناء والسيارات، أسسوا أرضية لحماية حقوق المهاجرين المغاربة الذين التحقوا بهم في سبعينيات القرن الماضي، حيث حرصت الإدارة الفرنسية في وزارة التشغيل على استقدام عمال مغاربة من المجال القروي حتى لا يكون لديهم ماض نقابي مثل العمال في المصانع الواقعة في المجال الحضري. لكن الجيل الأول من العمال المغاربة لعبوا دورا كبيرا في الدفاع عن مكتسبات وحقوق جيل العمال الذين هاجروا بعد الاستقلال إلى فرنسا، خصوصا منهم الذين عملوا في مجال السيارات، إذ رغم أنهم لم يكونوا يتوفرون على أي تكوين في المجال إلا أنهم استفادوا من التغطية الصحية وكافة الحقوق الاجتماعية إلى أن حصلوا على التقاعد.
أرشيف نقابيين مات برحيلهم
عندما توفي الزعيم الاستقلالي امحمد بوستة مؤخرا، برزت بعض كواليس نقاشاته مع النقابة أيام معارضة القرارات الحكومية والمواجهات مع إدريس البصري.
في سنة 1996، كان مخططا إنشاء حكومة تناوب بمشاركة بين حزبي الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، لكن نوبير الأموي، الاسم النقابي الأكثر شغبا في تلك الفترة، نسف ميلاد الحكومة في منزل الاستقلالي امحمد بوستة. إذ لام الحاضرين من الحزبين في منزل بوستة على تداولهم في أمر الحقائب الوزارية المفترضة التي سيرفعونها إلى الملك الراحل الحسن الثاني، واعترض الأموي ملقيا اللوم على الاتحاديين الحاضرين لأنهم، حسب رأيه الشخصي، كانوا يتداولون في أمر الوزارات بدون حضور عبد الرحمن اليوسفي الذي كان في تلك الأثناء يراقب الوضع من بعيد خارج المغرب.
سُرّ إدريس البصري كثيرا عندما علم بما وقع مع نوبير الأموي في إقامة امحمد بوستة. كان وزير الداخلية يعلم جيدا أن النقابة بإمكانها أن تنسف كل شيء، لذلك كان في حرب ضروس مع كل الأسماء النقابية في المغرب وعلى رأسهم المحجوب بن الصديق. فمنذ الستينيات التي كان خلالها إدريس البصري يعمل في الإدارة العامة للأمن الوطني، كانت قناعته لا تتزحزح بخصوص المتاعب التي يمثلها النقابيون لأمثاله. وصراعه مع بن الصديق استمر حتى مع وصول البصري إلى وزارة الداخلية وسيطرته على دواليب القرار أكثر خلال التسعينيات عندما أمسك بحقيبة وزارة الإعلام أيضا.
كان المحجوب بن الصديق يمثل تهديدا حقيقيا للوزير القوي. إذ أن مكالمة واحدة فقط من زعيم الاتحاد المغربي للشغل كانت كافية لشل معامل أي مدينة مغربية تتوفر فيها النقابة على مكتب قوي. كان إدريس البصري كلما تكرر هذا السيناريو يرفع سماعة الهاتف غاضبا ويطلب من العامل أن يحل المشكل في أقرب وقت وألا تتطور الأمور إلى مضاعفة خسائر المستثمرين الذين كان بعضهم أجانب يستثمرون في قطاعات صناعية خصوصا النسيج وتصبير السمك. وفي نهاية الثمانينيات، خصوصا مع موجات الغلاء، كانت النقابة تضغط على الداخلية من خلال إضرابات متلاحقة في قطاعات النقل والمصانع لإجبار وزير الداخلية القوي على الجلوس مع النقابات. كان يحدث هذا في زمن كان فيه الجلوس مع إدريس البصري يُغني تماما عن الجلوس مع الوزير الأول.
تأسف أكاديميون لعدم تدوين مذكرات المحجوب بن الصديق إذ برحيله رفقة أسماء أخرى ممن عاشوا تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، طُمرت كواليس كثيرة منها ما تضمن تبادل اتهامات بين قيادات ببيع النقابة لـ «الدولة»، في إشارة إلى الملفات الحارقة التي لعبت فيها النقابة دورا كبيرا خلال الاستحقاقات الانتخابية، خصوصا انتخابات سنة 1963 وموجة الاعتقالات التي طالت منخرطين في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والذين كانوا من مؤسسي النقابة مع المحجوب بن الصديق قبل انفصالهم عنه لتأسيس ذراع نقابية أخرى كانت تأتمر بأمر المهدي بن بركة، رغم أن المحجوب بن الصديق تعهد سنة 1961 بإبعاد النقابة عن أي ولاء حزبي، لكن الأمر كان مستحيلا في مغرب شديد الغليان.
ملفات سوداء…أرشيف نقابات الفرنسيين بالمغرب
كواليس تأسيس العمل النقابي في المغرب متشعبة ومترابطة، ولا تكاد تمسك بخيط من خيوطها حتى تبرز خيوط أخرى أكثر إثارة.
ولعل أحد أبرز الذين بحثوا في الموضوع ووثقوا له، نجد الباحث ألبير عياش، الذي تناول أكاديميا مسألة الوجود النقابي في المغرب. فهذا الأخير كان يرى، من خلال مؤلفه حول الحركة النقابية في المغرب، أن النقابات لعبت دورا كبيرا في ترسيخ ثقافة العمل النقابي في المغرب. إذ أن بيان تأسيس فرع CGT بالمغرب كان سنة 1930. وجاءت فيه عدة نقط توضح دواعي تأسيسه لحماية حقوق العمال الفرنسيين الذين قدمت لهم الحكومة الفرنسية امتيازات لتشجيعهم على ترك وظائفهم في فرنسا والتوجه إلى المغرب للاشتغال في الصناعات والإدارات.
كانت الرحلة بين تأسيس النقابة الفرنسية في المغرب، والتي تعود بداياتها الأولى إلى عشرينيات القرن الماضي، وبين تأسيس النقابة المغربية في مارس 1955، ممثلة في الاتحاد المغربي للشغل، والتي كانت الذراع الحركي عمليا لحزب الاستقلال، طويلة جدا. رحلة يلف جوانبها بعض الغموض، خصوصا في الصراعات الداخلية حتى بين أطر التمثيليات النقابية الفرنسية في المغرب، خصوصا المشغلين الذين كانوا يتخطون قرارات مضادة لتوصيات الإدارة العامة الفرنسية التي وضعت أمام المستثمرين والإداريين الفرنسيين بريما ألزمتهم باحترامه مقابل السماح لهم بالاستثمار في المغرب.
إذ لم يكن هؤلاء قادرين على المساس بحقوق العمال والموظفين الفرنسيين، وفي المقابل كانت لديهم صلاحيات واسعة لتشغيل عمال مغاربة خارج القانون.
من بين الحوادث التي تم تسجيلها، احتراق معمل لصناعة مواد تدخل في مجال مواد البناء يتم تصديرها إلى فرنسا عبر ميناء الدار البيضاء. وقد كتبت صحيفة «لو بوتي ماروكان» عن الواقعة سنة 1942، حيث ذكرت أن المصنع تعرض لحريق مهول ليلا، واتضح أن مئات العمال المغاربة المنحدرين من القرى المجاورة قد لفظوا أنفاسهم اختناقا بسبب كثافة دخان احتراق المواد الأولية. وبما أن المغاربة في ذلك الوقت لم تكن لديهم نقابة مغربية مائة بالمائة للترافع لصالحهم فقد طوي الملف. وكان مشرفون على المصنع من جنسية فرنسية، قد أصيبوا بأمراض تتعلق بضيق التنفس، وهو ما جعل النقابة الفرنسية تتدخل لصالحهم بقوة وأدى الضغط النقابي في الدار البيضاء إلى إغلاق المصنع وتغريم صاحبه سنة بعد واقعة الحريق في المخزن الذي كان يتخط بشكل غير قانوني مكانا لمبيت العمال القادمين من القرى والذين كان المشغل يستغلهم لنقل المعدات وغسل آلات الإنتاج رغم أن المواد المستعملة في التصنيع كانت سامة.
احتج محسوبون على الحركة الوطنية المغربية ضد ممارسات السلطات الفرنسية واهتمامها بمصالح رعاياها فقط على حساب حياة العمال المغاربة البسطاء، الذين كانوا يضطرون إلى العمل في المصانع الفرنسية بسبب الجفاف وتراجع مردودية المواسم الفلاحية.
ورغم أن الحركة الوطنية قد سجلت رفضها لما كانت تقوم به المعامل الفرنسية في محوري الدار البيضاء والرباط إلا أنها ظلت بعيدة عن العمل النقابي ما بين فترة 1920 و1956، حتى أن بعض المحافظين من منظّري حزب الاستقلال كانوا يرفضون فكرة العمل النقابي ويربطون بينها وبين «الشيوعية»، ويهاجمون الحزب الشيوعي المغربي الذي كان يدافع أساسا على حقوق العمال، وأخذوا مسافة من تلك الأنشطة إلى أن تطورت الساحة السياسية المغربية مع بداية الخمسينيات وكان لا بد من الانكباب على العمل النقابي خصوصا بعد أحداث تونس بعد اغتيال النقابي فرحات حشاد سنة 1952 وخروج مظاهرات في المغرب تنديدا باغتياله حيث كانت أصابع الاتهام تشير إلى فرنسا.
قصة عبد الله إبراهيم في وزارة الشغل مع نقابيين فرنسيين
مباشرة بعد استقلال المغرب، تسلم عبد الله إبراهيم وزارة التشغيل في فترة ما بين 1956 و1957، وكان أمامه وقتها تحدي هيكلة قطاع الشغل خصوصا وأن المغاربة في ذلك الوقت قد بدؤوا ينفتحون على التجارب النقابية، وكان هناك ترقب للكيفية التي سوف يتم بها تسليم المغرب مفاتيح القطاعات الصناعية التي كانت تشغل موظفين فرنسيين ومغاربة. يحكي عبد الله إبراهيم بنفسه عن هذه التجربة في مذكراته التي جمعها وأعدها الباحث محمد لومة، والتي اختار لها عنوان «سنوات الصمود وسط الإعصار». وقد كانت سنوات إعصار بالفعل، خصوصا وأن عبد الله إبراهيم واجه جيوب مقاومة في قطاع التشغيل، كانوا فرنسيي الجنسية، وكانوا يدافعون عن امتيازات راكموها في فترة الحماية، عندما كانوا يشكلون امتداد الأذرع النقابية الفرنسية وسط العمال الفرنسيين في المغرب. ويحكي عبد الله إبراهيم عن هذه التجربة قائلا:
«عندما استلمت مسؤولية وزارة الشغل والشؤون الاجتماعية في حكومة البكاي الثانية، وجدت نفسي مضطرا لخوض معركة حامية الوطيس على واجهة إصدار التشريع الوطني الخاص بالنقابات على عهد الاستقلال، كأولى الأولويات على هذه الواجهة.
لقد وجدت موظفا فرنسيا واكب التشريعات الخاصة بالعمل النقابي في المغرب منذ 1920، وإلى جانبه حوالي سبعة من المستشارين الفرنسيين، وبذلك كانوا يشكلون طاقما عنيدا يستحيل التفاهم معه.
وأول ما فكرت فيه، وضع تشريع وطني عصري في شأن مزاولة نشاط نقابي يليق بدولتنا المستقلة. فبدا لي بأنهم لا يريدون مسايرتي في هذا الاتجاه. فأعددت مسودة قانون، يرسي أسس مزاولة العمل النقابي، مشددا على الضرورة القصوى لحيازة الجنسية المغربية كشرط أساسي، وحددت كيفيات المزاولة والترشيح والانتخاب. إلخ.
رفض هؤلاء المساعدون هذا المشروع، باعتبار أن المنظومة النقابية بالمغرب، هي منظومة دولية، ومبنية على تشريعات عالمية، وأن التشريع المعمول به حتى ذلك الوقت في المغرب تشريع سليم، ولا ينبغي المساس به.
حضر وفد من الاتحاد العالمي للنقابات الحرة في جلسة ثانية، حيث واجهوا مشروعي لدى تلاوتي له عليهم باستغراب. وشعرت بأنهم متكتلون لإفشال كل ما أنا بصدده، وفي لحظة حاسمة من النقاش المتسم بالتوتر، قاطعت الجميع بقولي: (أطلب منكم بعض الهدوء. إن مشروعي سيأخذ طريقه للنشر في الجريدة الرسمية مهما فعلتم، وكنت أفضل بدل تحويلكم للمطبعة الرسمية لاقتناء أعداد من هذا القانون بعد نشره أن أناقشكم، في حين أنني لست ملزما بذلك أبدا، إننا دولة حرة مستقلة، ويحق لنا وضع التشريعات التي يستدعيها الوضع الاقتصادي والاجتماعي لبلادنا دون كل ذلك من اعتبارات).
صدر القانون الجديد، والذي أصبح قاعدة منذ ذلك الوقت لمزاولة العمل النقابي في المغرب، وقد حاول هؤلاء الناس مجتمعين عرقلة كل الإجراءات التي باشرتها ولكن عبثا».
قصة هذا الموظف الفرنسي الذي عايش كواليس العمل النقابي الفرنسي في المغرب منذ 1920 كانت حجرة عثرة أمام عبد الله إبراهيم الذي لم يعمر طويلا في قطاع التشغيل على كل حال، إذ أن عدم الاستقرار السياسي والحكومي، لم يسمح بمباشرة عدد من الإصلاحات في قطاع التشغيل، وحتى عندما أصبح عبد الله إبراهيم وزيرا أول سنة 1959، لم يكن قطاع التشغيل وقتها قد تعافى من تبعات التمزق السياسي، رغم أن النقابات المغربية وقتها قد عززت وجودها على الأرض، إلا أن تحديات أخرى، منها المواقف السياسية لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قد أثرت كثيرا على مجريات العمل النقابي بعد الانشقاق عن حزب الاستقلال وملاحقة عدد من النقابيين والسياسيين بتهم وصلت خطورتها حد تهديد الأمن العام واستهداف النظام في البلاد.
بين بنبركة وبن الصديق.. الحروب الطاحنة لصراعات الأذرع النقابية
شهادة الوزير السابق عبد الله إبراهيم، أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بخصوص ملف الشغل والعمل النقابي الذي بقيت أذرعه الفرنسية تتحرك بخفة في المغرب مباشرة بعد الاستقلال، تكشف أن العمل النقابي لم يتأسس بسهولة في مغرب كان يصارع من أجل البقاء.
إذ أن تأسيس أول حكومة مغربية مباشرة بعد الاستقلال، واكبه نقاش حول العمل النقابي منذ 1955، تاريخ عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى.
كان حزب الاستقلال يجمع قاعدة شعبية واسعة جدا، يسهل معها بداية العمل النقابي.
وكان كل من عبد الرحيم بوعبيد، المهدي بن بركة، ثم عبد الرحمن اليوسفي الذي كان في بداية عقده الثالث شابا متقد الحماس، من المشرفين على تنظيم المظاهرات في الدار البيضاء منذ النصف الثاني من الخمسينات. وهكذا كان يسهل على حزب الاستقلال تأسيس نقابة تصبح هي الأولى تنظيميا في المغرب لسد الطريق أمام النقابات الفرنسية التي كان مهندسوها يخططون للبقاء في المغرب حتى بعد الاستقلال. والدليل أنهم أحبطوا محاولات حكومية لحل ملفات المعامل الفرنسية وآلاف العاملين الفرنسيين في الإدارات التي ورثها المغرب بعد 1956.
لكن مع وصول حزب الاستقلال إلى أغلب القطاعات الوزارية، كان الطريق معبدا أمام نقابة الاتحاد المغربي للشغل وانضوت تحته قطاعات التعليم والبريد وأيضا العمال في المصانع، حيث ارتفعت شعبية النقابة المغربية التي تعتبر الأولى في تاريخ البلد التي يكون كل منخرطيها مغاربة، ولا وجود للفرنسيين بينهم.
سطع نجم محجوب بن الصديق الذي تزعم النقابة، حيث كان المهدي بن بركة يملي هاتفيا تعليمات لصحافة حزب الاستقلال، ممثلة في صحيفة «العلم»، لكي تولي اهتماما كبيرا لكل أنشطة النقابة بل تدعو في مناسبات كثيرة إلى الانخراط فيها.
لكن عندما جاء الانفصال التاريخي عن حزب الاستقلال، وتحول المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم وقيادات أخرى، إلى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، انسحبت قيادات النقابة إلى الحزب الجديد، وهكذا أصبح موضوع ولاء الاتحاد المغربي للشغل لحزب الاستقلال محط إحراج لعدد من القيادات النقابية التي كانت تحظى بامتيازات واسعة خلال الفترة ما بين 1956 و1960. حيث كانت واجبات الانخراط والمساهمات، كافية لجعل التمثيلية النقابية مستقلة ماديا عن الحزب.
في سنة 1961 سوف يرفع المحجوب بن الصديق سقف التوقعات، وسوف يعلن أن الاتحاد المغربي للشغل لا يتبع لأي حزب مغربي في إشارة إلى الصراع بين حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وهو ما شكل بداية حرب تصريحات على الصحف قادها المهدي بن بركة شخصيا.
وهكذا انسحبت قطاعات بأكملها كان يسيطر عليها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، من نقابة الاتحاد المغربي للشغل، وتأسست لاحقا نقابة جديدة اعتبرت ذراعا لحزب المهدي بن بركة، والتي عرفت لاحقا بالكونفدرالية المغربية للشغل.
ثم توالت الأحداث عندما خرج عبد الرحيم بوعبيد في سنة 1978 معلنا بداية جديدة في الاتحاد، وتم تحديث أذرع النقابة التي أصبحت هي محرك مواقف الاتحاد الاشتراكي، للرد على التضييق الكبير الذي لقيه الحزب بعد اغتيال عمر بنجلون وتسجيل الحزب مواقف ضد الحكومة ومن الاستفتاء على الدساتير واتهام وزارة الداخلية بتزوير الانتخابات وشن إضرابات في قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة.
ظهرت مركزيات نقابية أخرى جاءت نتيجة تحركات على الساحة السياسية، لكن أبرز التكتلات النقابية، هي التي شهدها المغرب في فترة الستينيات والسبعينيات، حيث كانت الاعتقالات وحالات الاختفاء التي تطرقت لها هيئة الانصاف والمصالحة سنة 2002، من بين الملفات الشائكة التي ارتبطت بالصراع النقابي ونتج عنها اختفاء نقابيين ومعارضين بسبب أنشطتهم النقابية.
ملفات نقابية ب«الأبيض والأسود»
لم يكن هذا لون الصور التي تعود إلى تلك المرحلة وحسب، وإنما أيضا لونا لأحداث سيطرت عليها القتامة. إذ أن اختفاء المهدي بن بركة في أكتوبر سنة 1965، ثم اغتيال عمر بنجلون سنة 1975 وبينهما اختطاف الحسين المانوزي الذي كان ينشط نقابيا في صفوف عمال مكتب المطارات، وبسبب نشاطه النقابي لجأ إلى المنفى.. كانت كلها ملفات تهيج النقابيين المغاربة الذين كانوا يرفعون شعارات غاضبة في احتفالات فاتح ماي، أو في المظاهرات والإضرابات، خصوصا مظاهرات مارس 1965 ثم أحداث 1981 بالدار البيضاء.
كل هذه الأحداث كانت تشكل أختاما سرية على ملفات الحوار الاجتماعي في الحكومات المغربية خلال تلك الفترة. إذ كان قمع تلك المظاهرات يزيد من تأزيم الحياة السياسية، خصوصا في فترة الاستثناء. إذ أن تقريرا من أرشيف الخارجية الفرنسية تطرق لجمود الحياة السياسية في المغرب ما بين سنوات 1965 و1970 (أي طيلة فترة حالة الاستثناء). هذا التقرير الذي رفعت مضامينه من سفارة فرنسا في المغرب، تطرق للجمود السياسي مشيرا إلى تأثيره على الأنشطة النقابية، بحكم أن عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي كانا يحضران في قمة للأحزاب الاشتراكية، ينعقد في باريس، ويتطرق لمشاكل التمثيليات النقابية للأحزاب اليسارية.
كان التخوف الفرنسي من تبعات الوضع السياسي في المغرب، بدعوى أن عددا من المعارضين المغاربة اختاروا فرنسا منفى لهم، وبالضبط تيار محمد الفقيه البصري، وكانوا يقومون بإحياء ذكرى اختفاء المهدي بن بركة، كأحد رموز اليسار دوليا، وكانت هناك تخوفات في فرنسا من تصعيد محتمل في المظاهرات بحكم جمود الوضع السياسي في المغرب وقتها.
أما مع إدريس البصري في وزارة الداخلية، أي بعد سنة 1979، فقد كانت التقارير الداخلية التي ترفع إليه، والتي اهتمت بها الخارجية الفرنسية والأمريكية أيضا، فقد كانت تتعلق بأنشطة القيادات النقابية، إذ أن إدريس البصري لم يكن يطيق اتساع نفوذ النقابات جماهيريا، خصوصا مع تهديد رموزها أمثال نوبير الأموي، المحجوب بن الصديق، بإضرابات شاملة احتجاجا على سياسات الحكومات التي كان إدريس البصري دائم الحضور بها من خلال حقيبة وزارة الداخلية.
لكن ما ساعد البصري في مهمته، لم يكن تقارير الأجهزة الأمنية التي كان يشرف عليها من موقعه في وزارة الداخلية، ولكن أيضا من ماضيه في مكتب الشؤون السياسية في ذات الوزارة منذ بداية السبعينيات. إذ واكب في هذا المكتب صدور التقارير السرية لوزارة الداخلية عبر العمالات عن تحركات الرموز النقابية خلال الإعداد للمظاهرات الكبرى التي شلت الاقتصاد وكانت لها عواقب وخيمة سياسيا وحقوقيا أيضا. حتى أن أصابع الاتهام تشير بقوة إلى إدريس البصري وتتهمه بالوقوف وراء الأحداث الأليمة لسنة 1981 حيث سقط المتظاهرون بالرصاص الحي رغم أن المظاهرات كانت سلمية.
اعترف إدريس البصري للصحافة في آخر حياته، عندما غادر الحياة السياسية، أنه كان يجهز على التحركات النقابية من خلال إفشال الإضرابات جهويا. حيث كان يخرج في الصحافة أيام كان وزيرا للداخلية ويعطي تصريحات عقب الاجتماعات المغلقة التي كان يعقدها مع النقابات، كما أنه كان يأتي إلى البرلمان لكي يرد على الأسئلة المتعلقة بمسار الحوار الاجتماعي بين الحكومة والنقابات.
وكان من بين أسباب اعتراض أحزاب الكتلة على بقائه في وزارة الداخلية عند التفاوض على أول حكومة للتناوب سنة 1995، هو علاقته المتوترة بالمركزيات النقابية.