خالتي فرنسا.. وصاحب القطة الصغيرة
أخيرا تسقط الأسطورة الفرنسية التي تقول إن الحقيقة يملكها الفرنسيون فقط. وأكثر الذين يؤمنون بها هم المغاربة.. للأسف!
عندما يصدر كتاب باللغة الفرنسية، فإن النخبة المغربية التي تشرب فنجان قهوة بثمن يعادل المصروف اليومي لأسرة مغربية بكاملها، بما في ذلك حيواناتها الأليفة، تتهافت إلى قراءة تقديمه والفهرس فقط، ويبدأ نقاش مضمونه وكأنه حقيقة نزلت من السماء.
الصحفيون الفرنسيون، يملكون دائما الحقيقة، والصحفيون المغاربة، عليهم أن يتفرجوا فقط على الصحفيين الفرنسيين الذين يأتون لنشر أرجلهم تحت شمس فنادق مراكش وأكادير، ثم نشر أشياء أخرى عندما يعودون إلى فرنسا. النظرة الاستعمارية التي تنظر بها خالتنا فرنسا إلى المغرب لا يمكن أن تتغير.. لأنها نتيجة تراكم كبير يعود إلى الفترة التي كان فيها آباء وأجداد هؤلاء الذين يكتبون اليوم عن المغرب، وكأنه مادة للدراسة الجامعية، أو الإثارة الصحفية، يرون أجدادنا وسط حياة البساطة والبداوة.
صحيح.. عاش المغاربة حياة صعبة، لكن هذا لا يعني أن فرنسا جلبت لنا الحياة.. بل كنا نتوفر على فائض منها.
«إيريك لوران» الذي لا بد وأنه كان ينظر إلى المغرب وكأنه «محلبة» يمكنه أن يحلب منها أي قدر يريد، بعد أن يلوّح ببعض أوراق، يكفي أن تكون مكتوبة بالفرنسية.
التاريخ لا يكتبه الذين يرون في قضايا الشعوب وانتقالاتها السياسية والاجتماعية، «همزة» لتأليف عشرات الصفحات وجمعها في غلاف ووضع عنوان مثير ليتشمس في الأكشاك.
التاريخ كتبه، وإن على تباين، أولئك الذين جاؤوا إلى المغرب وتواضعوا قليلا لاستقاء الحقيقة قبل كتابتها. وهؤلاء لم يكونوا فرنسيين.. لحسن الحظ.
جولة بين الكتب التي تناولت «المغرب» طيلة المائة سنة الماضية، تكفي لتأكيد أن الفرنسيين الذين كتبوا عن المغرب، قاموا بالكتابة من فوق الفرس الذي يمتطيه العسكر، ويكتبون عن المغربي من أعلى. على عكس الكتابات الأخرى، خصوصا الإنجليزية، والتي يتحدث أصحابها عن تجارب لا تخلو من مبالغات بطبيعة الحال، لكنها تبقى مذكرات، تطلب إنجازها مخالطة الناس ومعايشتهم وتناول طعامهم واستكشاف عاداتهم.
طيلة تاريخ علاقات فرنسا بالمغرب، فإن أغلب الكتابات التي خطها الفرنسيون، كانت تحمل رؤية استعمارية، ترسخ فكرة أن المغرب كان يعيش في الظلام إلى أن جاءت فرنسا لتعطيه بعضا من الحضارة. والحقيقة أن المدرسة الاستعمارية الفرنسية، واحدة من أبشع المدارس عبر التاريخ، لأنها تعمل على استنزاف البلدان المُستعمرة، وجعل حضارة بأكملها حديقة خلفية تشجع فرنسا مواطنيها على القدوم إليها للاستجمام، أو ممارسة الأنشطة الفلاحية في الضيعات، وتضع رهن إشارتهم ممتلكات المغاربة.
لا تهمنا تبريرات «إيريك لوران» لأنها ليست أصل المشكل. لا يوجد صحفي واحد في فرنسا، يقبل أن يأتي صحفي مغربي ليكتب له عن الوضع السياسي بفرنسا، ولن تقبل صحيفة فرنسية واحدة أن يأتي صحفي من المغرب ليكتب تحقيقا صحفيا سيقلق السياسيين الفرنسيين. المشكل هو مضمون ما اعتاد هؤلاء كتابته عن المغرب بالفرنسية.
تذكرون قضية المهدي بن بركة.. أّلف عنها الفرنسيون أزيد من عشرين كتابا، منذ سنة 1965.. تتشابه فيها مصادر المعلومات وتختلط عليهم فيها أمور كثيرة، ولم تجب كل تلك الكتب عن أسئلة بقيت معلقة إلى أن جاءت الرواية المغربية لأحمد البوخاري، لتعطي تصورا، للقضية، من الداخل. ورغم ذلك فإن أغلب الفرنسيين لم يعيروها اهتماما، لأن الحقيقة بالنسبة إليهم لا يجب أن تخرج عن القبعة الفرنسية، التي لا تناسب رؤوس المغاربة!
هناك قصة مضحكة بخصوص التأليف الفرنسي.. سبق لمستشرق فرنسي لا يتحدث العربية أن كتب كتابا عن الإسلام، وتحدث فيه عن بعض الأحاديث النبوية كمصادر للتأريخ، وذكر حديثا نبويا عن أبي هريرة، وترجم معنى اسمه إلى الفرنسية. بعد ذلك جاء أحد الجهابذة ممن يعتقدون أنهم يترجمون إلى العربية، وارتكب «كسيدة» خطيرة عندما أخذ كُنية أبي هريرة بالفرنسية وترجمها إلى العربية.. وهكذا أصبح الكتاب في نسخته العربية يتحدث عن حديث نبوي روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، نقله صحابي اسمه «صاحب القطة الصغيرة». وطُبع الكتاب ونُشر وقرأ الناس لأول مرة عن صحابي اسمه بالعربية يصلح لبطل قصة للأطفال، وليس لكتاب يتحدث عن الفكر الإسلامي.
هذا الخطأ الفظيع في الترجمة يفضح أخطاء كثيرة في المعارف والمدارك، يستحيل لمن ألف السقوط فيها أن يقدم مادة فكرية صالحة للقراءة. وعلى «إيريك لوران» أن ينزع حذاءه، هو وأمثاله للدخول إلى المغرب أولا قبل الكتابة عنه من أعلى.. فالذين يكتبون باستعلاء، يحدث أن يفكروا في بيع كتاباتهم بالمتر المربع..