شوف تشوف

الرأي

حين تعيد العلاقات الدولية إنتاج حالة الطبيعة

عبد الإله بلقزيز
إلغاء شريعة القوة من العلاقات الدولية كان واحدا من أهم المبررات التي أقام عليها النظام الدولي مشروعية قيامه.
كانت شريعة القوة تلك قد فرضت أحكامها على العالم وأنتجت فجاعاتها، على نحو غير مسبوق، في حقبة صعود النظام النازي في ألمانيا وإشعاله الحرب العالمية. ولقد زعم صناع النظام الدولي، المنتصرون في الحرب، أن نظامهم الذي أقاموه مبناه على قوة الحق لا على حق القوة. لذلك سيكون نظاما محكوما بالقانون وبقواعد متوافق عليها؛ منصرفا إلى فرض الأمن والسلم والاستقرار، وموفرا الآليات والأدوات الإجرائية لبناء التعاون والتضامن بين أعضائه.. وتلك المبادئ المعلنة من مؤسسيه أولا هي ما شجعت على الانضمام المتزايد إلى الأمم المتحدة من الدول التي تطلعت إلى قيام نظام جديد يبنى على هذه القيم.
والحق أن المبادئ الـمساقة تعريفا بهذا النظام: قواعد وأساسات وقيما، هي عينها التي أسست لـميلاد الدولة الوطنية الحديثة؛ منذ وقع التعبير الفلسفي عنها – فـي فلسفة العقد الاجتماعي – خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلى أن وجدت لنفسها التجسيد المادي والسياسي المؤسسي فـي القرن التاسع عشر (بعد سلسلة الثورات الإنجليزية والأمريكية والفرنسية). ولأن بناء النظام السياسي الحديث على مبادئ الحق والتعاقد والقانون وصون الحريات والحقوق والمصالح، هذه، أخرج الحياة السياسية من الفوضى والنزاعات وفرض الأمن الاجتماعي وحقق السلم المدنية، وفتح أمام المجتمعات سبل التطور والتقدم، نُظِر إلى تعميم تطبيقها على العلاقات الدولية بما هو فرصة أمام قيام «مجتمع دولي» جديد.
غير أن النظام الدولي هذا لم يكن ليطابق نظام الدولة الوطنية أو يشبهه في الطبيعة والملامح والقسمات، لأن مبناه، في الواقع، على قواعد أخرى غير التي صرح بها، أو دبجها في وثائقه. يقر نظام الدولة الحديثة في دستوره وقوانينه بمبدأ المساواة بين المواطنين، مثلا، فيما يخلو النظام الدولي من أي مظهر لعلاقات المساواة (امتياز «الفيتو»)؛ ويتوقف عمل النظام السياسي في الدولة الحديثة على استتباب السلم، ومنع انتهاك القانون والإرادة العامة شرطا له، فيما تزدحم حياة النظام الدولي بالنزعات السياسية والعسكرية على النفوذ والمصالح؛ وتلحظ الدولة الوطنية الحاجة إلى إحاطة الحقوق الاجتماعية والسياسية بالضمانات الدستورية والقانونية التي تحميها، فيما حقوق الشعوب الصغيرة والمغبونة تتعرض للحيف فـي النظام الدولي…
يشبه النظام الدولي الراهن النظام «الاجتماعي» السابق لقيام الدولة على نحو ما تصوره الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبس: نظام «حالة الطبيعة State of nature»؛ وهو النظام الخالي من القانون، والقائم على مبدأ القوة وعلى علاقات التخاوف (الخوف المتبادل Mutual fear)، أي على المبدأ والعلاقة اللذين يؤسسان لما سماه بـ«حرب الجميع على الجميع» (The war of all against all). إن النظام هذا ينقض قانونا طبيعيا، هو الآكد في قوانين الطبيعة؛ قانون البقاء أو قانون حفظ النوع الإنساني (Conservation of the human race)، الأمر الذي ينشأ من ذلك استحالة استتباب الشروط التي تجعل الحياة ممكنة في نطاق أحكام قوانين الطبيعة. ولا مندوحة عن الخروج من هذه الحال لإنقاذ قانون البقاء، ولا يكون ذلك -حسب هوبس- سوى بإقامة المجتمع السياسي (= الدولة) والتعاقد بين الناس على بنائه من أجل إقرار الأمن والسلم. ولقد خرج نظام الدولة الوطنية الحديثة من جوف هذا البناء النظري، الذي أقامته فلسفة العقد الاجتماعي، والذي طوره – كما عدله- كل من جون لوك وباروخ سبينوزا ومونتيسكيو وروسو… وصقلته تجارب البناء الدولتي الأوربية والأمريكية.
النظام الدولي، الذي لم يرق نموذجه إلى مستوى نموذج النظام السياسي الحديث، ما زال يمتح قيمه من نظام حالة الطبيعة الهوبسي، حيث مبدأ القوة حاكم، والعداء مستعر، والحرب مفتوحة بين الدول وقانون البقاء مهدد بانقراض النوع البشري بالأسلحة النووية وأسلحة الدمار الكلي. وإذا ما اعترض معترض بالقول إنه نظام لا يخلو من قانون (خلافا لنظام حالة الطبيعة)، نرد بأن القانون ذاك قانون القوة وقانون الأقوياء الذين يفرضون على البشرية شريعتهم. في الدولة الحديثة يعبر القانون عن الإرادة العامة (جون جاك روسو)، والمواطنون هم مَن يضعونه وهم شركاء فيه. أما في النظام الدولي فالقانون هذا موضوع للبشرية من الأقوياء الذين وضعوه و بالتالي لم يكن السواد الأعظم من دول العالم شريكا فـي وضعه. والأهم من وضعه تطبيقه: إن الذين يطبقونه يحتكرون تطبيقه، بل يمدهم القانون عينه بالحق الحصري في تطبيقه. هل خرجنا، إذن، من حالة الطبيعة، على الصعيد الدولي، فاهتدينا إلى تأسيس نظام قانوني يحفظ الأمن والسلم والحقوق؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى