شوف تشوف

الرأيالرئيسية

حين تعتل الثقافة

خالص جلبي

تعيش الأمة العربية حالة أزمة مستحكمة، في تجليات لانهائية، في سيمفونية كلها نشاز. بين مواطن أعمى، ومثقف مدجن، وواعظ في ركاب السلطان، وصحافة مرتزقة، وفقيه غائب عن العصر، ومسؤول أطرش. صم بكم عمي فهم لا يفقهون. وليس زلزال الشرق الأوسط إلا انفجار خراج وقيح، من جسم معتل، وإذا كان منظره دمويا فاقعا في العراق وسوريا وليبيا واليمن، فهو سميا مترافقا بالحمى في أمكنة أخرى، منذرا بخطر قادم، لمن يفقه حركة التاريخ فيحتاط لنفسه، فيستعد للشتاء القادم، بحطب ومعطف دافئ، وإلا لهم الويل مما يصفون، وهو زلزال لن يرحم أحدا، بمن فيهم أهل النفط، الذين يسبحون في رفاهية لا يرجع فضلها إلى كدح وعرق، بقدر صدفة جيولوجية بحتة، وأمم من هذا النوع ليس لها مستقبل، ما لم تنفض الكسل وتعتاد العمل وهو تحد. قال لي «الهصاك المغربي» في فاس: في سوريا الضريبة باهظة، ولكنهم سينالون حريتهم كاملة. التاريخ يحمل الجواب عن تعليق الأخ الهصاك.
طبيعة هذه الأزمة ثقافية في عمقها، أحد أبعادها سياسي المظهر، وهي أزمة قديمة لها نقطة انطلاق، وتاريخ تطور، ومضاعفات ميدانية.
تم هذا عبر ثلاثة مفاصل تاريخية:
1ـ أولها انفلاق الأمة بعد معركة صفين إلى ثلاث شعب: لا ظليل ولا تغني من اللهب.
1ـ فأما الفريق الأول الانتهازي المرواني فصادر الحياة الراشدية، حين قام بتشكيل دولة بيزنطية، تصفي المعارضة الفكرية على يد جزارين من طراز الحجاج. زعم الفريق الأول أن الخلافة في القبيلة، بموجب نصوص وظفوها للسلطة.
2ـ والفريق الثاني وظف النبوة في عائلة، بموجب الزمرة الدموية، واستدارة الجمجمة، وهي أقرب إلى النظرية النازية في أرومة الدم الآري، وسموا الأولاد بعبد الحسين بدل عبد الله، ومن لبس العمامة السوداء كان نقي الدم ومن اعتمر البيضاء كان دمه هجينا. والمسألة ليست فكرا؛ بل قتل الأطفال السوريين في الغوطة، لأنهم أمويون بزعمهم، في تجمد في خندق الزمن. وتجنيد الدين للصراع السياسي مسألة قديمة منذ حمورابي والفرعون بسماتيك، وفي يوم حمل فريق القرآن على رؤوس الرماح للاحتكام ولم يكن أنزه الطرفين.
3ـ أما الفريق الثالث فهو نموذج داعش المكرر عبر التاريخ؛ فريق الخوارج الدموي، ويمكن استنباته بسهولة؛ فهو من الأعشاب البرية، وفطر الحقول، ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل.
2- المفصل الثاني: بمصادرة التفكير والاجتهاد العقلي، وتأسيس رؤية أحادية دوغمائية متشددة لمعالجة الواقع، صادرت العقل والفن في ضربة مشؤومة. ومنذ محنة ابن حنبل في فتنة خلق القرآن، تجمد القرآن على فهم أصولي جامد محنط، ما زلنا ندفع ثمنه حتى اليوم. بكل أسف فإن ثقافة التسلط سيطرت أيضا على فكر المعتزلة، حين أصبحوا في جيب السلطة فاضطهدوا خصومهم. ولو بقي التدافع بين الفكر العقلي والنقلي قائما، لرست سفن العالم الإسلامي على شواطئ المستقبل. ثم تكلل الخسوف في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، بسقوط جناحي العالم الإسلامي في إشبيلية عام 1248م، وبغداد عام 1258م. ولولا خروج العثمانيين إلى مسرح التاريخ في هذه الفترة، لكنا قصعة على مائدة الغرب، قبل ستة قرون. ولم تولد إسرائيل إلا بفعل مخطط الانحدار الذي ضرب مفاصل الدولة العثمانية وعم العالم العربي كنتيجة حتمية، بعد أن قتل الراعي وتشردت الأغنام في ليلة مطيرة، كما ذكر ذلك ابن خلدون في (مقدمته) عن انحطاط المشرق مثل المغرب على نسبة عمرانه، وكأن لسان الكون نادى بالخمول والانقباض فبادر بالاستجابة، والله وارث الأرض ومن عليها.
3ـ المفصل الثالث هو ثالثة الأثافي: التحول العالمي قبل خمسة قرون، بارتياد المحيط على يد الصليبيين الفقراء، فامتلكوا البحار والثروة والعالم الجديد، فانقلب محيط الحضارة من المتوسط إلى الأطلنطي؛ فالغرب اليوم يملك ثمانية قروش من كل تسعة قروش ونصف من الثروة العالمية، وأربعة أنهار من كل ستة، وحين أُبْصِرُ نهر «سان لوران» في كندا، أقول إنه ليس نهرا، بل بحر يضيع فيه النيل ودجلة والفرات. كما يملك الغرب خمسة فدادين صالحة للزراعة من كل سبعة، ويمتلك ثلاثة أخماس الكرة الأرضية، وأربع قارات، وآلاف الجزر الغنية، من كوبا حتى نيوزيلندا. وبنى أحفاد ريتشارد قلب الأسد بيتا لهم في القمر، ومحطة في المريخ، ومركبة تسبح في الملكوت ومسابر تراقب الأرض بعين لا تنام، يحسدهم عليها جن نبي سليمان (مسبار المفتاح 11Key)، تدور حول الأرض كل تسعين دقيقة فيرصد النمل الذي يدب على الأرض، ويقرأ جرائد المتسكعين في مقاهي عدن وطنجة. وهكذا كُتِب سفر الحضارة من الشمال إلى اليمين وكان بالعكس. ولكن لماذا اعتلت الحضارة الإسلامية بهذا الروماتيزم الخبيث، وأصيبت بحزمة من الأمراض المستعصية يمكن أن نحصيها في تسعة مفاصل موجعة بأشد من الروماتيزم الخبيث، فماهي؟ في مسح خطير يمكن أن نرصد حزمة من أمراض الثقافة العربية الاسلامية تصل إلى العشرة من نموذج: (تأليه القوة) و(إجازة الغدر) و(مرض الآبائية) و(احتقار العلم) و(الفكر الأسطوري) و(عدم اعتماد العقل السنني) و(ظن الاستغناء بالنص عن الواقع) و(دونية المرأة وتهميشها) و(سموم العنف) و(فهم التشريع بدون الانتباه إلى الآليات الخلفية كي يصبح مفهوما). وهي أمور تحتاج إلى أن تشرح وتفصل، مثل دراسة أي مرض في مخابر معقمة جدا.

نافذة:
طبيعة هذه الأزمة ثقافية في عمقها أحد أبعادها سياسي المظهر وهي أزمة قديمة لها نقطة انطلاق وتاريخ تطور ومضاعفات ميدانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى