«لكن أكثر ما آلمني يا صاحب الجلالة هو أن الذين يكتبون في تلك الجرائد لا يعرفونني ولا يعرفون شخصيتي، لذلك لم أجد سببا يجعلهم يهاجمونني بتلك الطريقة.
لكن «غوستاف بابين» الذي ارتكب جريمة مهاجمتي والطعن في شرفي، فقد أجبرته على الاعتذار لي من خلال طلب قدمته إلى المحكمة، لكنه في المقابل عاد لمهاجمتي بشكل أكبر من خلال مقالات وأعمدة كتبها لتلك الصحف وكتب كتابا عني كله كذب وبهتان، تجعل كل من قرأها يحقد علي شخصيا.
هذه الاتهامات أضرت كثيرا بشرفي وبشرف عائلتي (..)
لقد قمت بالخطوات اللازمة لأطلب من العدالة إنصافي من خلال المحاكم الفرنسية المشهورة، وكتبت شكاية للمقيم العام، والتي وضعت نسخة منها رهن إشارة جلالتكم، والتي طلبت منهم فيها أن يوجهوا شكايتي أيضا إلى الجهات الرسمية والتي أعني بها حكومة جلالتكم، لكي تصل الشكاية إلى أكبر عدد من المسؤولين.
أحيي من الأعماق جلالتكم نصركم الله.
الحاج التهامي الكلاوي. باشا مراكش».
هذه البداية فقط، سننشر هنا مضامين مراسلات حاول من خلالها أشهر باشوات المغرب وأقواهم الدفاع عن نفسه أمام حملة إعلامية شرسة قادها ضده ليوتنان عسكري فرنسي، تفرغ لتعرية الباشا الذي لم يطو الصفحة إلا بصعوبة سنة 1932، رغم أنه لجأ إلى القضاء في الدار البيضاء ثم باريس لإنصافه. لنتابع.
سيرة رجل انتهى في الظل
تصلح شخصية الباشا الكلاوي لرواية أو فيلم، هذا أمر لا شك فيه. فالرجل عاش حياته في بريق السلطة، إلى أن حصل المغرب على الاستقلال سنة 1956. حينها قرر الباشا أن يختفي، أو تقرر له أن يكون كذلك.
كيف بدأ الباشا الكلاوي حياته؟ وكيف انتهى رجلا غير مرغوب فيه، بعد أن كان يمثل حلا للمعادلات الصعبة غير ممانع في خوض المغامرات التي أودت بكل رصيده؟ بل المثير كيف أن الرجل كان بشخصيتين، الأولى يتعامل بها مع فرنسا ولا يمانع في استضافة العسكريين والمدنيين ويحيي حفلات باذخة على شرفهم، والثانية كان يظهر بها مرتديا جلبابه العتيق، رافعا وجهه في وجه كل من ينادي بتحديث الحياة العامة في المغرب؟
لدى الباشا الكلاوي جينات قديمة، ورثها من قبيلته ولم يستطع التخلص منها رغم أنه صادق العسكريين والسياسيين. فحتى عندما كان يفتح باب بيته لصديقه الحميم رئيس الوزراء البريطاني تشرشل، أحد أشهر الشخصيات العالمية في أجواء الحرب العالمية الثانية، كان في عمق شخصيته رجلا محافظا يفكر بمنطق القبيلة. والدليل أنه كان يحكم مراكش بقبضة من حديد، وثار ضد المغربيات اللواتي قررن ارتداء اللباس الأوربي، وقال بالحرف إن المغربيات لم يُخلقن لذلك النوع من اللباس. وفي الوقت نفسه الذي أطلق فيه هذه التعليمات كانت إقامته الفخمة تفتح كل مساء في وجه الأوربيات وأزواجهن، وبل حتى سفرياته إلى أوربا لم يكن يمانع فيها أن يحضر الحفلات والمسارح ويحضر في الصف الأول للسهرات والأمسيات الفنية، التي كان من ضيوفها الكبار.
ورغم كل هذا فقد كان الباشا يمنع في منطقة نفوذه، مراكش والنواحي، أن يعيش المغاربة على إيقاع تلك الحياة الأوربية، حتى أنه حارب الشبان المغاربة الذين انفتحوا على الحياة العصرية الجديدة وعاقب الذين يتجولون في الحدائق العامة مع الفتيات!
نورد هذه الأمثلة هنا لكي نفهم عن قرب شخصية الباشا، رغم أنها باتت عصية على الفهم، حتى بالنسبة إلى الذين عاصروا تلك الفترة وكونوا عن الباشا صورة أخرى لا تمت لحقيقته بأي صلة.
فالرجل كان إلى آخر أيامه يبحث عن التوافقات، وظل يمثل الخط الموازي الذي تفاوضه فرنسا رسميا، إذا استحال أن تتوصل إلى حل مع ممثلي الحركة الوطنية، خصوصا في الفترات الحرجة التي سبقت نفي الملك الراحل محمد الخامس.
لقد أحاط الكلاوي نفسه برجال كبار أمثال العالم عبد الحي الكتاني وآخرين لا يتسع المجال هنا لذكرهم، لكنهم كانوا يُنعتون بالعقلاء في زمن كان فيه السواد الأعظم من المغاربة أميين تماما.
من خلال هذه الأوراق التي تُنشر لأول مرة في الصحافة الوطنية، سيظهر وجه جديد للباشا الكلاوي. الرجل المغدور الذي استهدفته الصحافة الفرنسية، أو شق منها على الأصح، من خلال حملة قوية أطلقها ليوتنان فرنسي اشتغل في المغرب كعسكري على رأس العمليات القمعية التي قتلت آلاف المغاربة، وكان الباشا الكلاوي حاضرا خلالها. أصدر هذا الليوتنان كتابا اتهم فيه الباشا الكلاوي بأنه سفاح سرق أموال المغاربة وقتلهم، ووصفه بأحط النعوت، لينتفض الباشا الكلاوي لكرامته الجريحة، لكن دون أن يملك فرصة تغيير الوضع لصالحه.
الغريب أن هذا وقع مرتين. خلال نهاية العشرينات، وفي سنة 1932. ورغم ذلك فإن الباشا الكلاوي عاد إلى خدمة فرنسا بقوة خلال الأربعينات والخمسينات، وقاد الحملة الشهيرة لنفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953، وحوّل اسمه بطواعية إلى شماعة علقت عليها كل الخيانات، واتهم الرجل قيد حياته وحتى بعد وفاته، بأنه خان العرش والمغاربة، رغم العفو الشهير الذي خصه به الملك محمد الخامس فور انتهاء «محنة» المنفى سنة 1955.
هذا هو الكتاب الذي اتهم الكلاوي بقتل زوجته جوعا و«سرقة» مال بلده
كانت هذه الشخصية، شخصية الباشا الكلاوي، مثار فضول الأجانب أكثر من المغاربة. والدليل أن الكاتب والمغامر الأسكتلندي الشهير «جافين ماكسويل» خصص له حيزا مهما من أبحاثه ومذكراته عن المغرب. هذا الرحالة الشهير الذي كان مولوعا بالمغرب قبل وفاته سنة 1969، كان ينبش وراء الباشا الكلاوي إلى أن حصل على نسخة من المراسلات التي كان يتبادلها مع الإقامة العامة والقصر الملكي بشأن كرامته الجريحة. فقد حرص الباشا الكلاوي بعد سنة 1932 على إخفاء معالم القضية وطواها وكأنها لم تكن، واستمر في صداقته مع الفرنسيين، خصوصا عندما همدت الحملة الإعلامية الشعواء التي قادها ضده «الليوتنان» الفرنسي «غوستاف بابين». ماذا وقع إذن؟
لقد حصل الباحث والمغامر الأسكتلندي على بعض تلك المراسلات وضمنها كتابه الذي انقرض من الأسواق فترة قصيرة بعد صدوره خلال الستينات، لسبب مرده إلى أن المغرب لم يعد يريد إثارة موضوع الباشا بعد الاستقلال. والدليل أن الرجل لم يحظ سنة 1960 بأي جنازة تترجم المكانة الدولية الكبيرة التي كان عليها قيد حياته. لقد مات الباشا الكلاوي وسط قبيلته ودفن بعيدا عن الأضواء، وحضر جنازته عدد قليل من الأعيان وزعماء القبائل، بالإضافة إلى بعض أصدقائه الأجانب الذين كانوا لا يزالون في المغرب. تلقت أسرة الباشا تعازي كثيرة من شخصيات عالمية مرموقة. لكن مباشرة بعد وفاته، طويت الصفحة بعدم تناول سيرته ولا سيرة الذين عاشوا معه أدوار ترتيب نفي الملك الراحل محمد الخامس، حتى أن الملك الحسن الثاني خلال سبعينات القرن الماضي، كان متحفظا في التعامل مع بقية الشخصيات، خصوصا الذين ماتوا خارج المغرب، وكانوا على رأس لائحة الخونة التي كُتبت سنة 1956.
لكل هذه الأسباب لم يحظ الكتاب الذي تناول حياة زعماء الأطلس، بأي اهتمام عند صدوره فترة قصيرة بعد وفاة الباشا شخصيا، وانتهت النسخ المحدودة الأولية منه بسرعة ليصبح مفقودا. أما كتاب الليوتنان الذي اتهمه الباشا الكلاوي سنة 1932 بأنه كال له السب والشتم، فإنه انتهى أيضا بمجرد ما قرر الباشا نفسه طي الخلاف، والمضي قدما، خصوصا عندما فطن إلى أن الإدارة الفرنسية لن تنصفه أمام أحد موظفيها العسكريين القدامى. وهذه أول إهانة ابتلعها من فرنسا.. لكنه لم يفهم الدرس مبكرا.
المثير أن كتاب الليوتنان الذي عنونه بـ«واوزيرت الغامضة»، في إشارة إلى القبائل التي نفذت فيها فرنسا جرائمها جنوب الأطلس، بالإضافة إلى العنوان الآخر الذي تحدث عنه الباشا نفسه في رسائلة «فخامته»، والمقالات التي نشرت في الصحيفة الفرنسية التي أنشأها الليوتنان غوستاف في الدار البيضاء خصيصا لمهاجمة الباشا الكلاوي، تحدثت عن أن الباشا الكلاوي أهمل زوجته الكبرى وأم أولاده وتزوج بدلها زوجات أخريات، وسجنها وتركها تموت جوعا في بيت معزول وبعيد عن إقامته الفخمة، وعندما ماتت زعم الليوتنان أن أبناءها لم يجدوا المال الكافي لتدبر جنازتها، ودفنوها بأسمالها البالية في صمت دون أن يلتفت إليها الباشا ودون أن ينظم لها جنازة تليق بمقامها كزوجة له.
ثار الباشا ضد هذه الرواية التي أسماها الأكذوبة، وأكد أن زوجته ماتت في قلب داره، بل وأكد للسلطان وللإقامة العامة الفرنسية أنه نظم لها جنازة تليق بمقامها، وأكد أنها عاشت محاطة بالخدم والحشم إلى آخر أيامها معه. لماذا يروج ليوتنان فرنسي هذه الرواية وينشرها في الصحافة الفرنسية؟ إنها قصة مثيرة لحرب إعلامية استهدفت الباشا الكلاوي سنة 1927، ثم سنة 1932 في قلب باريس.
عندما أحس «الباشا» بالإهانة
ربما لم يكن يتوقع الباشا الكلاوي شخصيا أن تتسرب مراسلاته الخاصة مع الإقامة العامة الفرنسية، ومع بعض الإداريين الفرنسيين في الرباط، خلال نهاية العشرينات. دعك من المراسلات الخاصة بشؤون الإدارة، فتلك كان الباشا بنفسه يحتفظ في أرشيفه الشرفي بأصولها. نتحدث هنا عن شكاياته التي اعترف فيها أنه أحس بالإهانة، ووجه نسخة منها إلى السلطان شخصيا، وهناك رسالة خاصة وجهها إلى السلطان لوحده، صاغها من خلال كُتابه بلغة مخزنية خالصة، كان الباشا خلال نهاية العشرينات يتقنها أكثر من الجميع.
في سنة 1923، قام عسكري اسمه «غوستاف بابين» بنشر مذكرات ساخنة عن تجربته في المغرب والتي امتدت لأزيد من عشر سنوات، كان خلالها يحمل رتبة «ليوتنان» ويصول ويجول في الجنوب المغربي والتقى الباشا الكلاوي هناك وكل قادة منطقة الجنوب المغربي، حتى أنه شارك في المفاوضات التي حدثت بين قيادة الجيش الفرنسي وقادة القبائل التي وافقت على وقف إطلاق النار، لكن بعد وقوع ضحايا كثر وسط الجيش الفرنسي ومن رجال القبائل أيضا.
بمجرد ما وصل إلى علم الباشا أن الكتاب المطبوع يتناول اسمه شخصيا ويتحدث عنه بطريقة لم ترق له، خصوصا أن العسكري غوستاف وضع الباشا في إطار ضيق وصفه فيه بالغطرسة والديكتاتورية، وتحدث فيه عن ثروته الكبيرة متسائلا عن المصدر الذي اغتنى من خلاله بتلك الطريقة «الفاحشة»، كما أنه أورد مقاطع تحدث فيها عن المعاملة الدونية التي يعامل بها المحيطين به. لكن ما أثار حنق الباشا أكثر، هو ذكر «غوستاف بابين» للأحداث العسكرية وكيف كان الباشا يتعاون مع فرنسا لقمع بعض القبائل، بطريقة أنكر الباشا تفاصيلها، وعزم أن يقاضي الكاتب.
يقول الباشا في مقطع من رسالة وجهها إلى السلطان محمد بن يوسف، أسابيع قليلة بعد صدور الكتاب في ربيع 1923 ما يلي: «لقد حصلت على تقدير جلالتكم، ووشحتموني بأوسمة عن خدماتي المتكاملة، كما أن فرنسا أيضا وشحتني بأوسمة متعددة وسامية.
وواصلت العمل قدر ما أستطيع، لاستكمال مهمتي النبيلة، والتي كانت مصدر فخر لي ولعائلتي. ولن يزيدها الزمن إلا سموا وتقديرا.
لكن رغم كل هذا يا صاحب الجلالة، فإن بعض الصحف مثل «باريس تريبين» وجرائد أخرى اصطفت لمواجهتي ومهاجمتي، واستهدفت شرفي بنية الإساءة إلي باتهامات لا يستطيع أي شخص يحترم نفسه أن يوجهها لإنسان آخر.
لكن أكثر ما آلمني يا صاحب الجلالة هو أن الذين يكتبون في تلك الجرائد لا يعرفونني ولا يعرفون شخصيتي، لذلك لم أجد سببا يجعلهم يهاجمونني بتلك الطريقة.
لكن «غوستاف بابين» الذي ارتكب جريمة مهاجمتي والطعن في شرفي، فقد أجبرته على الاعتذار لي من خلال طلب قدمته إلى المحكمة، لكنه في المقابل عاد لمهاجمتي بشكل أكبر من خلال مقالات وأعمدة كتبها لتلك الصحف وكتب كتابا عني كله كذب وبهتان، تجعل كل من قرأها يحقد علي شخصيا.
هذه الاتهامات أضرت كثيرا بشرفي وبشرف عائلتي (..)
لقد قمت بالخطوات اللازمة لأطلب من العدالة إنصافي من خلال المحاكم الفرنسية المشهورة، وكتبت شكاية للمقيم العام، والتي وضعت نسخة منها رهن إشارة جلالتكم، والتي طلبت منهم فيها أن يوجهوا شكايتي أيضا إلى الجهات الرسمية والتي أعني بها حكومة جلالتكم، لكي تصل الشكاية إلى أكبر عدد من المسؤولين.
أحيي من الأعماق جلالتكم نصركم الله.
الحاج التهامي الكلاوي. باشا مراكش».
ربما لا تحتاج الأسطر هنا إلى مزيد من التوضيح. فالباشا الكلاوي هنا يستنكر أن يثير ليوتنان فرنسي، ربما أحيل على التقاعد في بلاده ذكريات عمله في الحملات العسكرية التي شنتها فرنسا على الجنوب المغربي، ما بين سنوات 1912 و1919. والتي تحدث عنها كثيرون بأنها ارتكبت فظاعات كبيرة ضد المغاربة.
كتاب وجريدة وزعا مجانا بباريس مرغا كرامة الباشا في الوحل
هنا نورد أقوى مقاطع المراسلة التي وجهها الباشا الكلاوي إلى المقيم العام الفرنسي في الرباط، ونجد فيها أنه وصف غريمه بـ«الكاتب اللئيم» ولم يشر إلى رتبه العسكرية:
«إلى السيد المقيم العام، سفير فرنسا وممثلها في المغرب.
إنه لشرف كبير لي أن أراسلكم بصفتكم ممثل الدولة الحامية العظمى، وأشعركم أنني وجهت نسخة من هذه الرسالة إلى جلالة مولانا السلطان، وأنني أيضا اتخذت خطوة لاستعادة كرامتي التي أصبحت هدفا لبعض الأشخاص.
كاتب لئيم اسمه «غوستاف بابين»، مشكوك في سلامة فكره ونواياه، والذي كان مستقرا في المغرب قبل سنة 1927. حيث بدأ مع مجموعة من الفرنسيين، سرعان ما هجروه وتخلوا عن رفقته بعدما اكتشفوا نواياه السيئة.
جاء إلى مراكش بعد ذلك وأحضره إلي رجل اسمه عبد الحكيم. وهو رجل أعمال مغربي غير نزيه طُرد منذ مدة من المغرب. وقد حظي عند قدومه بدعم مني واستضفته. لكنه أطلق حملة عنيفة ضدي في جريدة أطلقها بنفسه وأسماها «L’ Ere Francais». لقد اتهمني بأنني قاتل سفاح وسارق وكذاب. لكن صبري انقضى بعد أشهر، وتوجهت إلى المحكمة في الدار البيضاء. لكن «غوستاف» أرسل إلي بعض أصدقائه في المغرب ونقلوا إلي طلب العفو عنه وإسقاط الدعوى التي رفعتها ضده.
لكن، قبل جلسة المحاكمة التي قدرت يوم 23 دجنبر 1927، قدم «غوستاف بابين» اعتذاره علنا، وقال إنه أخطأ عندما هاجمني وقذفني بدون أدلة، وإنه يعتذر من أعماقه ويطلب الصفح. طلبت بعدها من محاميّ أن يتعاملوا مع تلك التصريحات بالمطلوب، وقررت ألا أواصل الدعوى ضد شخص مثله. وبعد ذلك غادر «غوستاف بابين» المغرب إلى فرنسا، ولم أعد أسمع عنه أي شيء.
لكن بعض الأصدقاء أكدوا لي أن «بابين» عاد لينشر سنة 1932 كتابا عنونه بـ«فخامته». وكان الكتاب كله يتحدث عني، وازدراني فيه رفقة شخصيات مغربية وفرنسية أيضا.
كانت صفحات هذا الكتاب تشتعل حقدا وبغضا وعاد من خلاله «غوستاف» إلى توظيف مقالات جريدته القديمة ووصفني من جديد بالسفاح والمجرم وقاطع الطريق.
فكرت ألا أقوم بأي رد فعل ضد الكتاب وكأنه غير موجود ولم أهتم به. لكن كل الشخصيات الفرنسية التي لها علاقة بالمغرب، بالإضافة إلى نبلاء المغرب وشخصياته المرموقة، توصلوا بنسخة مجانية من الكتاب. لقد قام «بابين» بالتضحية بمبيعات كتابه ووظفه في حملته ضدي بالاستعانة بجريدة. هذه الجريدة أعادت نشر اتهامات «بابين»، واستلهمت منه مقالات بالتأكيد. اتبعت الجريدة الإجراء نفسه، ووزعت نسخها مجانا على تلك الشخصيات المتهمة بالمغرب وأيضا الشخصيات المغربية التي لها علاقة مع فرنسا.
(..)
أرجو منك فخامة المقيم العام أن تتقبلوا خالص التحية وولائي الصادق والتام.
الباشا التهامي الكلاوي».
اعترافات الكلاوي..
ربما تأخر الباشا الكلاوي في فهم أن الفرنسيين لم يكن لديهم أصدقاء، بعكس الأمريكيين الذين تعرف عليهم في سنة 1943، والذين ربطته بهم صداقة متينة وبأسرهم أيضا. أما العسكريون الفرنسيون فقد كانوا ينفذون التعليمات. هذا ما فطن إليه الباشا في مراسلاته التي وجهها إلى المقيم العام بشكل شخصي، بعيدا عن رتابة إجراءات الإدارة وآداب مراسلاتها.
فرغم كل الخدمات التي اعترف الباشا الكلاوي أنه قدمتها فرنسا كدولة حامية للمغرب، إلا أنها لم تستطع حمايته من عسكري فرنسي برتبة «ليوتنان». يا للغرابة!
هكذا استغرب الباشا نفسه عندما وجد نفسه وجها لوجه مع «وغد» (هكذا وصفه الباشا لاحقا في مراسلات أخرى) دون أن تراعي فرنسا الوضع الاعتباري للباشا، والذي سيتعزز أكثر خلال الأربعينات، ويصبح في أوج قوته سنة 1953. لكن الثلاثينات التي نتحدث عنها هنا، كان فيها الباشا مُستهدفا من الذين قادوا الحملات العسكرية ضد المغرب، خلال العشرينات وما قبلها بقليل.
هل صحيح إذن أن الباشا كان «مجرم حرب» كما حاول الليوتنان غوستاف أن يصوره في كتابه؟ فقد تحدث الكتاب، من خلال ما شد انتباه الباشا وقرر أن يقاضيه بسببه، عن ثروة الباشا وشكك في مصادرها، علما أن الرجل ينحدر من أسرة ورثت السلطة والجاه لقرون متواصلة، كانت خلالها تتحكم في أجود الأراضي وتدبر مناطق شاسعة سياسيا وتتولى تنظيم ضرائبها وتمثل أعلى سلطة في البلاد داخلها. وكان «كلاوة» هم الناطقون الرسميون باسم أكبر تجمع قبلي في الجنوب المغربي، ولا بد أنهم راكموا ثروات مهمة مقابل قيامهم بهذا الدور وجمعهم بين السلطة وتمثيلها في منطقتهم. فقد كانوا في كثير من المرات يفاوضون أنفسهم.
بالعودة إلى المراسلات التي تبادلها الباشا الكلاوي مع المقيم العام الفرنسي ضد الحملة الإعلامية التي قادها ضده الليوتنان غوستاف، نجد مقطعا معبرا للغاية، يتناول فيه تلك الأحداث: «من دجنبر 1918 إلى مارس 1919، وأيضا من يناير إلى دجنبر 1920، وُضعت قوتان تم تدريبهما تحت إمرة الجنرال لاموث. لقد كنتُ على رأس مساعدي تلك القوات! وكانت هذه أصعب مهمة. إذ ليس سهلا التحكم في القبائل الغاضبة والمتباينة في المواقف. ومنذ غشت إلى أكتوبر 1922، رافقت الجنرال دوغان، والذي كان يقود العمليات في نفوذ قبيلة آيت امحمد. وقد نجحت من خلال «حْرْكة»، تحت تعليمات وإدارة الجنرال، في تحقيق أهداف الخطة الفرنسية في المنطقة.
ومنذ 1925، كانت بعض المكاتب العسكرية قد تأسست في مناطق مختلفة وكانت تقع تحت إشرافي وأقوم بتدبيرها في منطقة جنوب الأطلس التي كانت وقتها خالية من القوات الفرنسية. وقد ساعدت في تأسيس هذه المكاتب من خلال توظيف كل صلاحياتي وسلطاتي. وقد استمر هذا التنظيم والإشراف لسنوات، حافظت خلالها على النظام والانضباط».
سيكون مثيرا ربما لبعض المهتمين بالتاريخ أن يقرؤوا اعترافات الباشا، لأنه لم يسبق له الإفصاح عنها بشكل رسمي، خصوصا عندما آلت الأمور إلى ما آلت إليه بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى وانزواء الباشا إلى التقاعد المبكر. لقد كان أحد كبار المتضررين من الاستقلال، رغم الصورة الشهيرة التي جمعته بالملك الراحل محمد الخامس، إلا أن تهمة الخيانة التي لاحقت كل الذين كانوا مقربين منه ومن أصدقائه أيضا، جعلت الباشا يختار أن ينزوي في بيته بمراكش، حيث لم يستمر طويلا وتوفي بعد الاستقلال بفترة قصيرة بعيدا جدا عن الأضواء.
لماذا هوجم الباشا بعد سنة 1932
هذا السؤال سيبقى أحد أكثر الأسئلة إثارة، لأن الجواب عنه يبقى صعبا للغاية، خصوصا وأن نوايا فرنسا وسياساتها في المغرب كانت تتغير باستمرار.
لم يكن سهلا على أحد سواء داخل المغرب أو خارجه، أن يفلت من سيرورة الأحداث العنيفة التي فرضتها فرنسا على الجميع. لكن الغلط الذي ارتكبه الباشا أنه أحدث انقلابا كبيرا داخل عائلته. فوالده المدني الكلاوي كان هو الشخصية التي قادت انقلابا حقيقيا في المغرب، من مراكش، عندما أوصل المولى عبد الحفيظ إلى الحكم خلفا لأخيه المولى عبد العزيز، ووحد رأي العلماء الذين لم يكونوا قادرين على الإفصاح صراحة عن رفضته للصداقة التي ربطها المولى عبد العزيز، بعد وفاة المولى الحسن الأول، مع الإنجليز. لكن المدني الكلاوي كان يقدم خدمة لفرنسا دون أن يشعر. فقد اضطرب المغرب كثيرا جراء ذلك الانقلاب، وتقوى الوجود الفرنسي سنة 1907، وفهمت بريطانيا أن الحرب لم تعد حربها، خصوصا وأنها كانت تنوي تطويق القصر أولا قبل تطويق البلاد، لكن مخطط العلماء والقبائل التي قادها المدني الكلاوي وجاءت بالمولى عبد الحفيظ من مراكش إلى فاس، كلها أربكت الحسابات.
أما الباشا الكلاوي من خلال هذه المراسلات التي أوردناها في هذا الملف، فقد بدا واضحا أن الرجل كان مضطرا إلى بلع طل هذه المرارة، ويصبر على «تمرميد» ليوتنان عسكري، وهو الذي كان يصادق الجنرالات فقط، ويفتح بيته لهم وينظم لهم الأمسيات في مراكش، ويضع المدينة كلها رهن إشارتهم.
لقد كان الباشا الكلاوي في عمقه شخصا كثير الحساسية، لأن الكتاب الذي نشره «غوستاف» كان المختصون الفرنسيون ينظرون إليه على أنه مرجع تاريخي يصف بدقة بشاعة الحرب التي قادتها فرنسا ضد الجنوب المغربي لإخضاعه، وأشار إلى اسم الباشا الكلاوي كأحد أهم المساعدين لفرنسا على تنفيذ عملياتها العسكرية. وهو ما اعترف فيه الباشا بنفسه، عندما وجه رسائله إلى المقيم العام يطلب منه فيها المساعدة، رغم أنه لجأ إلى القضاء ضد غريمه، وهو ما لم يكن مفهوما.
هناك فرضية أخرى لغضب التهامي الكلاوي، وهي أن الليوتنان «غوستاف» قام بمهاجمة الباشا، لأنه لم يحصل منه على ما أراد من الهدايا التي سمع عنها الفرنسيون كثيرا. فقد كان الباشا الكلاوي معروفا بكرمه مع الشخصيات العسكرية الفرنسية، حتى أنه قام ببناء ملعب غولف خاص ووضعه رهن إشارة موظفين عسكريين وإداريين فرنسيين لكي يروحوا عن أنفسهم عندما يزورونه في المغرب.
في المقابل، لم يغضب الباشا عندما وصفته جرائد فرنسية بأن ثروته أكبر من ثروة الدولة المغربية، بل ظل يراقب الوضع في صمت. وربما ساعده على الاستقرار نفسيا أن جل العسكريين الأمريكيين سنة 1943 كانوا من أصدقائه، وكانت فرنسا تحتاج إلى العون الأمريكي في الحرب العالمية الثانية. كان الباشا الكلاوي وقتها يدعم الوجود الفرنسي في المغرب، وقد رأينا كيف أن بعض الوطنيين اتهموه بتعذيبهم لنزع اعترافات منهم بخصوص العمليات الفدائية.
لقد بدا واضحا أن الباشا الكلاوي لم يستوعب فقط الدرس جيدا. فقد عاد بعد موجة الحملة الإعلامية ضده إلى دعم الوجود الفرنسي، بمجرد ما غادر الأمريكيون القاعدة في القنيطرة. غادر بعضهم بهدايا مرصعة بالماس والجواهر النفيسة لنسائهم، ومنهم من وضعها رهن إشارة القوات الأمريكية، بحكم أنهم حصلوا عليها خلال مهمتهم في المغرب. بينما الفرنسيون الذين حصلوا على الهدايا من الباشا، لم يسلموا الدولة أي شيء، بل ظل بعضهم ينزلون في الفنادق على نفقتهم، ويتوددون إليه كلما زار باريس، حريصين على حضور الحفلات التي يحضر فيها ويتكفل بأداء فواتيرها. لقد كان الباشا محاطا بالفرنسيين رغم أنه تجرع منهم الإهانات، ولا أحد منع المقالات التي نالت من شخص رجل اعترف أنه خدم فرنسا.. بأمانة.