شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

حينما كانت أبواب المنازل الكبرى مفتوحة أمام الزوار

في ذاك الزمان الذي ولى لم يكن مسموحا للجيران وحدهم بحضور الحفلات العائلية، وإنما كانت هذه الرخصة تشمل إلى جانبهم أيضا كل الأطفال والنساء اللواتي يتصادف مرورهن أمام مكان الحفل.

كانت المتفرجات من كل الأعمار، لا يستطعن الظفر بمقعد، إذ يكن في غالب الأحوال مصحوبات بأطفال. لذلك كن غالبا ما يكتفين بالوقوف في مدخل فناء المنزل، أو في الطابق الأول للبيت. كان يحدث أحيانا، وإن بشكل استثنائي، أن تتم دعوتهن للجلوس. والاستعانة بالكراسي في تلك الأوقات كانت نادرة جدا، لأن هذا النوع من الأثاث كان شبه غائب بالمنازل.

 

كانت المدعوات يلجأن إلى حجز مكان لهن، متوسلات في ذلك بوضع سجاد صغير، أو فرد مناديل جميلة من القماش فوق الأفرشة التي تؤثث الصالونات وساحة الدار. كان من غير المقبول أن تعمد المسؤولة عن تنظيم الحفل إلى تفضيل بعضهن على بعض، مخافة أن يعتبرن ذلك تهميشا لهن وتنقيصا من قيمتهن، أو يشعرهن بأنهن غير مرغوبات في الحفل. بالمناسبة، كانت الدعوة التي يتم توجيهها لجميع السيدات تجري دائما على نفس النحو حيث تقوم سيدة متقدمة نسبيا في العمر، ترتدي أبهى الحلل، وتتضوع منها رائحة أزكى العطور، حاملة في يدها باقة أزهار صناعية أو طبيعية، بطرق أبوابهن واحدة واحدة لتبليغهن الدعوة. كانت العبارات المهذبة شبه المسكوكة والمحفوظة عن ظهر قلب من طرف المستخدمة خلال هذا الطقس تتردد غالبا على نفس الشاكلة: لَلاَّ.. تقرئك “السلام”، ولأنك جد مهمة لديها، فإنها لن تقدر على تنظيم حفلتها إلا بحضورك. لا شيء يمكن أن يتم بدونك. أنتما تجمعكما علاقة ودية “الصواب”، وهي لا تخلف أية حفلة من حفلاتك، لذلك فهي تؤكد تأكيدا بالغا على حضورك، وتدعوك لأجل تشريفها. كانت المدعوات يتقن المجاملة، ويجبن بأفضل وأبلغ العبارات، دون أن يتحرجن في بعض الأحيان من طرح أسئلة غير مناسبة من قبيل: هل ستكون فلانة أيضا حاضرة؟ من هو يا ترى الجوق النسائي الذي سيحيي الحفلة؟؟.

كانت الحلل المختارة لحضور الحفلة التي تستمر لثلاثة أيام عوض سبعة أيام كما في السابق، تختلف حسب ترف المدعوات ورتبتهن الاجتماعية. كان العرف يقضي بأن لا نبالغ في ارتداء أبهى الأزياء وأغلاها إذا كانت العائلة المضيفة من الطبقات المتوسطة، لكي لا يشكل ذلك استعلاء أو تصرفا صادما خارج السياق، وحتى لا يتم بالأساس خطف الأضواء من العروسة التي ينبغي أن تظل نجمة الحفل بدون منازع. كانت الحلي والجواهر يتم انتقاؤها بعناية لتتلاءم وطبيعة المناسبة.

كانت جدتي الكبرى تحكي لنا عن أن حفلات الزواج في طفولتها تدوم لسبعة أيام. ثم تستفيض شارحة لنا كيف أنها استعدت مسبقا لذلك، بحيث جلبت صندوقا استخدمته كحقيبة كبيرة وضعت وجمعت فيها كل ملابسها التي ستحتاجها. فعلى عهدها لم يكن مطلوبا فقط تغيير الحلل، وإنما أيضا استبدال غطاء الرأس والأحزمة حسب كل طور من أطوار الحفل (يوم الحمام، الحناء، قوالب الصغار، قوالب الكبار، الدخول، الصبوحي…إلخ).

كان اليوم الأول يخصص للحمام. وكانت أغراض المدعوين المرافقين للعروس تشتمل، ضمن ما تشتمل عليه، على فوط أو منشفات تتدلى من جوانبها أهداب من حرير، تسمى بالعامية لهدوب.

خلال طقس الحناء الذي يعقبه في الغد، كان بالإمكان الاكتفاء بقفطان أو تكشيطة (قفطان بأكثر من حلة واحدة) يتم ارتداؤها من قبل، بينما يكون الحفل جاريا على قدم وساق.

 

الرجال يستحوذون على أهم يوم في الحفل

كان حضور النساء من القريبات يقتصر على المشاركة بطريقة غير مباشرة في الحفل، من خلال التفرج والمشاهدة انطلاقا من الدور الأول للمنزل دون الاختلاط بالرجال. هذا التستر لم يكن يعني أن يتصرفن على سجيتهن، وأن لا تنضبط حللهن وأساورهن لأجواء المناسبة. كانت بعض الجسورات منهن يدلين أعناقهن ورؤوسهن من النوافذ لمعاينة كيف تأخذ الموسيقى بعقول وألباب الرجال.

كان هؤلاء يعربون عن طربهم، من خلال الضرب بأيديهم على ركبهم بقوة، مشجعين الجوق الموسيقى ومرددين بأعلى صوتهم: الله الله.. كانت صيحات استحسانهم تعلو نبرتها كلما وقعت أعينهم على النساء اللواتي يتابعنهم من فوق. كانت هؤلاء النساء يقذفن في نتف صغيرة من الورق عناوين الأغاني التي يرغبن في سماعها، مطلقات الزغاريد العالية التي تغطي أحيانا على صوت الموسيقى. لم يكن يسعنا سوى أن نتفهم تماهيهن ذاك مع تلك الموسيقى الأندلسية التي نسميها الملحون، والتي كان يعزفها من أعماقهم موسيقيون موهوبون.

كان الأندلسيون، مسلمين ويهودا، قد وقع اختيارهم بالأساس على الحي الأندلسي لمدينة فاس لأجل الاستقرار. لم يستطيعوا عند مغادرتهم لفردوسهم المفقود أن يحملوا معهم أي شيء آخر، من غير علومهم ومعرفتهم بفنون الطبخ والعمارة والموسيقى، وغيرها من الفنون الأخرى، التي ظلت راسخة لديهم في الوجدان والذاكرة. كان أولئك الأندلسيون من المسلمين واليهود قد عاشوا نفس المأساة بعدما وحدتهم المحنة، وبعد أن حرموا أو جردوا من أراضيهم وممتلكاتهم كلها.

حكت لي جدتي -ماما سلاوي- بأن عائلتها احتفظت بمفتاح منزلها لعدة قرون على أمل العودة إليه مرة أخرى. كان هؤلاء الأندلسيون قد استقروا أيضا في مدن تطوان، سلا، الرباط، مراكش، وفي جهات أخرى من البلاد.

بمناسبة الحفلة، كانت الأشعار المرتجزة بالعربية الفصحى المسماة بالقصائد (القصيدات) أو المؤلفة بالدارجة المغربية (الزجل) التي تستلهم من مجريات الحياة اليومية محفوظة، ويجري استظهارها بشكل جيد.

كان غالبية الضيوف الذكور يرتدون زيا يكاد يكون موحدا: جلباب أبيض من الحرير مع طربوش فاسي أحمر، يظهرهم كمجموعة إخوة توائم يحيطون بالجوق، ويرددون معا تلك المقاطع الموسيقية المقترحة التي ينشدها رئيس الجوق والمجموعة. كانوا ينغمسون بكل حواسهم في جو المتعة السائد، لدرجة الاضطرار لتأخير وجبة العشاء. كانوا يكتفون بأن يرتشفوا عدة أكواب من الشاي المعد أمام الحضور بكل مظاهر الاحتفالية اللازمة، التي كانت تواكب عادة مثل هاته السهرات.

كان زي الشخص الذي يختار للاضطلاع بمهمة إعداد الشاي يختلف عن بقية الأزياء. كانت الحلويات التقليدية من مثل كعب الغزال، غريبة “دالعقدة”، وغريبة “البهلة”، كافية لتسد رمق أولئك السادة المهووسين الولهانين بحب تلك الموسيقى العذبة الراقية.

كانت أجواء الحفلات المقامة ذات مستوى رفيع ومن طراز عالي. وخصوصا إذا أحياها الحاج عبد الكريم الرايس، الذي كان يعد أفضل رئيس جوق على الإطلاق إبان تلك الفترة. كان قد خلف سي محمد بن عبد السلام البريهي الذي أطلق عليه لقب “المعلم”، لكونه كان أستاذا نابغة للموسيقى العربية الأندلسية. كانوا يحكون عنه أنه كان يحفظ الألحان الأندلسية التي تلقاها عن أساتذته من الرواد الكبار عن ظهر قلب دون نوتات.. كان جوقه هو الأشهر بمدينة فاس والمحيي لأغلب سهراتها وحفلاتها، فموسيقاه باعتراف الجميع كانت عن حق وحقيق بارعة جدا واستثنائية.

كان وريثه الحاج عبد الكريم الرايس الذي جعل جوقته الموسيقية تحمل اسم معلمه المرحوم البريهي ذائع الصيت مثله. فقد عرفت ألحانه وأغانيه أيضا نجاحا منقطع النظير على المستوى الوطني والدولي. لحسن الحظ أن هذه السلسلة الذهبية من الموسيقيين الموهوبين لم تنقطع، حيث إن من ساروا على منوالهم، وفي طليعتهم رئيس الجوق الأستاذ سي بريول لا تنقصهم بدورهم البراعة والموهبة المطلوبتين، ومازالوا بالتالي يتابعون المسيرة، وينشطون الحفلات مع بريول.

كانت المدعوة لا تنسى وضع قطعة من النقود في باقة “العرضة” (طقس دعوة شفهي تتردد خلاله السيدة المكلفة على منازل المدعوات لتوجيه الدعوة لهن) كإكرامية. كانت بطائق الدعوات، المكتوبة بكل البساطة الممكنة، توجه فقط إلى الرجال وتسلم لهم من طرف ولي أمر العريس، في حين كانت الكتابة على أغلفة الدعوات تتم بالخط العربي البديع، وكانت تخصص لكتابتها باليد فترة زوال كاملة. كانت لائحة المدعوين تحدد من طرف كبار العائلة حتى لا يتم نسيان أي شخص، فسهو واحد غير مقصود قد تكون عواقبه وخيمة وغير محمودة على العلاقات العائلية.

تعود تجربتي في الفراجة لسنوات الستينات. فعند تنقلاتنا اليومية أنا وأختي من حينا درب الجباص إلى مدرستنا بدرب الحرة التي كانت موجودة بين سويقة بن الصافي والطالعة الصغيرة، كنا نمر بمحاذاة منازل يظهر عليها أنها بصدد الاستعداد لإحياء حفل.

عند وصولنا إلى محيط مدرسة الدوح، تعودنا أن يتحفنا تلاميذ فوضويون جدا يتناوشون بينهم في كل الاتجاهات بعرض سخي. كنا نشق لأنفسنا ممرا صغيرا وسط الجمع الهائج لأولئك الأطفال الأنيقين، لنتوجه في خط مستقيم نحو درب سيدي الخياط، ثم في اتجاه زنقة أخرى مقطوعة يسارا بـ”سلام” وبعد ذلك بمسافة قصيرة “بزربطانة”، لكي ننزل بعد ذلك، عبر منحدر مظلم شيئا ما، فندخل مباشرة في الزنقة الكبرى الفسيحة جدا التي تسمى “الطالعة الصغيرة”.

كنا غالبا ما نتقاطع عند مرورنا قبالة النافورة، الموجودة غير بعيد عن “سلاج”، مع أحد المشردين الذي ينحدر من إحدى العائلات العريقة. كان يطالبنا كلما خطر له ذلك أن ننفحه ورقة نقدية. كان يرفض بتاتا القطع المعدنية كصدقة. كان الكبار يتسلون جدا معه، فهو أحيانا يتكلم معهم كحكيم من الحكماء، وأحيانا أخرى كانوا يتركونه يهيم في عالمه الخاص. لم يكن الوحيد، فقد كان هناك عديد الأشخاص من المعاقين ذهنيا مثله يؤثثون أزقتنا، حيث كانوا يتجولون فيها بكل حرية واطمئنان.

لم يكن بوسعنا أن نستغني عن الوقوف في الطوابير لأجل ابتياع سلك من الأسفنج أو حمص مقلي معبأ في مخروط يصطنعه البائع بعناية ومهارة بلفة واحدة من يده مستعملا أوراق دفاتر التلاميذ.

كانت فرحتنا نحن الاثنتين، تجعلنا لا نهتم إلا قليلا بنقص النظافة. كنا نتشارك سعادتنا مع صديقات الدراسة اللواتي لم يكن يفوتهن بدورهن جلب حلويات ووجبات خفيفة أخرى. كان التقاسم هو شعار المرحلة آنذاك.

ولأجل أن نرصد بشكل استباقي منزلا يستعد لإحياء حفل ما، كانت بعض المظاهر الطارئة على هذا المنزل تسعف كعلامات تشي بذاك التهيؤ. فهي وحدها كانت كافية لنا لتخمين طبيعة ونوع الاحتفال. كنا نعرف مثلا أن الحفلات يمكن أن تجرى في بحر الأسبوع في حالة ولادة أو عقيقة أو ختان.

من ناحية أخرى، كان العرض في دور الحفلات يشبه “الحلقة”، التي تعد عرْضا تجري أطواره في الهواء الطلق، مع فارق أنها تكون أضخم منها وبالمجان طبعا. كان يتم تنشيط هذا العرض من طرف ضيوف ذوي أناقة تشد الأنفاس وتبهر الأنظار، وأجواق ذات تكلفة باهظة تقدم باقة متنوعة من الأغاني والأنشودات. أتذكر أن الأخوات برغام، السيدة عمورة، وسي أحمد الضرير، هم من كان يتم عادة حجزهم لهذه المناسبات.

كانت طقوس العروسة المنظمة من طرف النكافات كالحاجة مفتاحة، والحاجة البتول تضفي على الاحتفالات سحرا جذابا. كان الحفل يتم على شكل استعراضي: لبرزة (تقديم العروس للجمهور)، الدورة (طواف العروسة وعرض الأغراض التي قدمت كهدايا). بل وكنا أحيانا حين يسعفنا الحظ، نتفرج على عروستين في وقت واحد إذا كان العرس لشقيقين تزوجا في يوم واحد.

وفي حالة ما إذا كانت العروسة شريفة (تنتمي لسلالة الشرفاء)، كان يعطى لها الحق في أن تحظى بدمية كبيرة على شكل عروسة مزركشة ترتدي نفس لباسها وترافقها عندما ينهضونها لتطوف أمام الحضور. كانت هذه العروسة تسمي “الكبة”.

هذا التقليد الذي تم التخلي عنه نهائيا كان يشبه تقليد “ابيدات”. كانت النكافات أو وسيطات الزواج بالمدينة تقمن بإلباس عدد من الأعمدة أزياء تقليدية جميلة عند مرور الموكب “الملكي” الفخم للعروسة، كدلالة على الاحترام والتقدير والتوقير.

أثناء الأعراس، كانت بعض المتفرجات يحظين بدورهن بحلويات تخصص عادة للمدعوات. بينما كان الأطفال يركزون انتباههم على المحتويات المختلفة للأطباق المقدمة، أكثر من التفاتهم لعروض الحفل ذاته، متمنين أن تميزهم عيون النادلات فيحدبن عليهم ويجدن ببعض القطع. ولكم مرة عاينا خيبتهم الكبيرة عندما كان يقع لهم أن تفضل عليهم هؤلاء الخادمات معارفهن من الحضور.

وإذا كانت هذه العروض المجانية حصرية للنساء، فإن الرجال كان لهم لوحدهم الحق في الحلقة مع استثناء يسمح للفتيات بالالتحاق بها. كان تألق الحكواتيين رهينا بإعجاب الجموع. إذ من خلال تجاوبها، المشجع أو المحبط للحكواتي، كان يتحدد نجاحه من فشله وتتشكل سمعته الفنية في المدينة. كان الموهوبون والعصاميون منهم يتقنون استعمال كل أنواع تقنيات العرض لأجل استمالة وإبهار المتفرجين، كأنهم تخرجوا من أرقى معاهد المسرح والسينما. وهكذا كان هذا التفاعل المثمر بين الجميع يقود إلى حالة قصوى من الانتشاء لكل المشاركين. لكن بمرور الوقت، لم يلبث الرجال أن تواطئوا على الترفيه عن أنفسهم في ساحات بعيدة، توجد على أطراف مدينتنا كتلك الموجودة قبالة ثانوية مولاي ادريس بباب بوجلود، أو تلك الموجودة بجانب سيدي علي بوغالب. هكذا استطاعوا أخيرا الاستئثار بالحلقة لوحدهم وطرد طائفة النساء منها بشكل نهائي ولا رجعة فيه.

ولأن النساء لم يكن لهن هذا الحق في اقتحام الحلقة، فقد راودتهن ربما فكرة أن يغيرن قدر الانزواء في البيوت، الذي يلازمهن، من خلال طرق أبواب الجيران والدخول عندهم لتلبية حاجتهن الماسة إلى الترفيه، التي لم يكن يعترف بها المجتمع لهن اعترافا كاملا.

كانت مراسيم الحفلات متعة حقيقية للمتفرجين بحيث أنه حتى الصغار من الذكور كان مسموحا لهم بالمشاركة شريطة أن يتحلوا بالهدوء. شخصيا سبق لي لمرة واحدة أن حظيت بحلويات جلبتها العروسة خصيصا لأقربائها. وهو ما كان له أثر عميق في نفسي استمر لدي إلى اليوم.

ولكم أن تتساءلوا الآن، كيف كان لنا أن نحدس طبيعة الحفل؟. بكل بساطة، كان ذلك يتم عبر استنشاق رائحة الوجبات التي تهيأ، وتخمينها من خلال نوعية النكهات المتسللة، والبخور التي يتم حرقها خلال القيام بعملية الطبخ، كما كانت هناك علامات أخرى خارجية تنبئ عن لون أو صنف المناسبة: كان الزرزاية (العمال، والحمالون) الذين يقومون بإدخال الفوانيس التي تشغل بالنفط، وأكاليل المصابيح الضوئية، والأواني النحاسية، الإشارات التي لا تخطئ، والتي تدل، دون أي احتمال ولو ضئيل للخطأ، على اقتراب تنظيم عرس.

كان الحمالون، الذين يتجمعون بأماكن مختلفة من المدينة تسمى “الجلسة”، يجوبون كل أنحائها، متميزين عن باقي الناس بألبستهم الخاصة، وأحذيتهم البلاستيكية، وقولهم “بلاك”، لدرجة أنه لا يمكنك التجول دون أن تلحظهم أو تحس بوجودهم. لقد كانوا شركاء مهمين وحقيقيين في المدينة العتيقة يحترمهم الصغير والكبير. خلال يوم الحفل، كنا نعتني بأن نخلع عليهم ألبسة تتوافق والمناسبة. كانوا منذ أن قدموا ذات زمن من أوطاط الحاج والمناطق المجاورة، قد أخذوا أنفسهم بقواعد سلوك جديرة بأن تجلب لهم الاحترام لأجل المساعدة في القيام بأعمال السخرة داخل المدينة. لذلك كانت خدماتهم محط طلب حثيث من كل أصحاب المهن والعائلات. لقد كانوا يحظون بسمعة جيدة نظرا لنزاهتهم الأخلاقية وجودة الخدمات التي كانوا يقدمونها.

كنت مستعجلة دائما أن أملي نظري في أزياء النساء وطقوس الزواج. كانت هناك دائما مساعدة تستقبلهن رفقة سيدة الدار يتم تعيينها خصيصا لنزع جلابيبهن واستكشاف صيغتهن وزينتهن الرائعة. كنا نعجب بقفاطينهن الجميلة أو التكشيطات المصممة من أنسجة ذات جودة عالية، كانت تستورد غالبا من المنطقة الحرة لطنجة، أو من فرنسا، أو تصنع من الديباج المنسوج عندنا من خيوط الحرير والذهب المستجلبة من ليون أو ميلانو.

كانت هذه الأنسجة الجميلة تعرض على واجهة محلات راقية بكل من القطانين والقيسارية. كانت هذه الأسواق شهيرة بما يكفي لكي تستقطب زبناء من كل جهات المغرب. كم مرة من المرات، كنت قد توقفت فيها بحي عقبة السبع، الذي كان يتمركز على إحدى الطرق التي يمكنها أن تؤدي بي إلى المدرسة، لأجل الاستمتاع بإبداعات مهنيي النسيج التي تتمخض عنها أنامل حرفيين مهرة من ضمنهم العديد من الأطفال.

يمكنني أن أؤكد لكم الآن أنني انتميت أنا وأختي في وقت من الأوقات إلى مجموعة الخبيرات، من اللواتي صرن مدمنات على الفرجة، لكن ذلك لم يدم طويلا بسبب المنع الذي أصدرته والدتنا بحقنا. زد على ذلك أننا رحلنا إلى فاس الجديدة عند بداية الستينيات، حيث عادت الحفلات تنظم بكل حميمية خلف الأبواب المغلقة. كانت المدينة الجديدة تجذب أكثر من خلال مرافقها، فالتنقل عبر السيارات أو من خلال وسائل أخرى كان أكثر سهولة ويسرا مما كان عليه الأمر بالمدينة العتيقة. كانت المساكن أكثر راحة وأكثر دفئا في الشتاء. وكان يحيط بنا عدد من دور السينما، والمسارح، والمحلات التي تبيع الملابس الجاهزة بالإضافة إلى العديد من المقاهي… كان النزوح إلى المدينة الجديدة قد تحول إلى ما يشبه الموضة، إذ لم يسبق أن تخيلنا أو خطر ببالنا أن منازلنا ستتحور إلى أجنحة يقطنها أشخاص آخرون، وأنهم سوف يمنحونها حياة أخرى من نوع جديد مختلف. عندما أزور اليوم بيتنا أو بيت الأجداد، أحس فداحة الخطأ الذي ارتكب بالتخلي عن تلك المعالم الأثرية مع ما صاحب ذلك من تضحية بالذكريات التي كانت منشأ ومسرحا لها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى