شوف تشوف

الرأي

حول الموت والحياة (2 ـ 2).. جراح الأعصاب هنري مارش يروي ذكرياته

من جملة قصص الجراحات المثيرة، يروي جراح الأعصاب البريطاني (هنري مارش) واقعة المريضة ميلاني (Melanie) شابة دون الثلاثين من العمر، كانت حاملا وفي الأسبوع 37 أصيبت بورم دماغي، بدأ يؤثر على قدرة البصر عندها، وعلى نحو سريع، يقول أدخلناها قاعة العمليات وبضربة واحدة رفعنا الورم الضاغط على العصب البصري، وأجرينا لها عملية قيصرية، فاستيقظت من البنج لترى وليدها فبصرها اليوم حديد.

ثم ماذا يحدث معنا بعد عملية هائلة؟ تأتي إلى مريضك الذي لا يحتاج لأنبوب معدة لترى طبيبا آخر قد تطفل عليه وأدخل أنبوب شفط السوائل عبر الأنف إلى المعدة (NGT). يقول فقدت أعصابي، ورفعت صوتي، وغلطت بحق الآخرين، مما دفعني للاعتذار وسحب مريضي إلى جناح آخر، استطعت رفع أنبوب المعدة من أنفه فاستراح واسترحت.

ومن الحكمة التي يذكرها (مارش) أن على الطبيب أن يكون حكيما يراعي هموم المريض وأهله، ويذكر واقعة مريض أجرى له ثلاث عمليات وفي كل مرة ينكس الورم، فكان عنيدا في المرة الرابعة، وأدخل مريضه من جديد وللمرة الرابعة طاولة العمليات، وبالطبع خسر المريض بالورم الدماغي الناكس.

يعقب الرجل ويقول على الطبيب أن يكون حكيما، وكان يجب علي أن أعظه فأقول له لقد حان وقت الموت براحة بدون جراحة. وبالمقابل فهناك سيدة مسنة تقبلت نصيحتي بشأن الورم الذي حملته، ويبدو أنه مع تقدم السن يزداد مقدار التقبل لحقيقة الموت.

يعلق جراح الأعصاب البريطاني على وصف أحدهم عن الجراحة أنها تحتاج قلب أسد وأعصاب فولاذ وأنامل سيدة. يقول هذا كلام لا معنى له، والأفضل أن ينتبه الجراح إلى أنه في ثلاثة أشهر يستوعب كيف تجرى العملية، ولكنه يحتاج لثلاث سنين، حتى يتعلم اتخاذ القرار السليم، ولكن الجراح يحتاج لثلاثين سنة حتى يصل إلى قدرة اتخاذ قرار أن لا يجري العملية الجراحية.

نعم إن الجراح البارع ليس ذلك الذي يجري عملية ناجحة، بل الذي ينتبه إلى الاختلاط وقت حدوثه ثم السيطرة عليه. وإمكانية أن يقول لا حاجة للعملية، وله الويل إن أخطأ فيكون قد قامر بسمعته.

أصيب ابن هذا الجراح بورم دماغي ـ سبحان الله – وهو جراح الأعصاب. أدخل المشفى على وجه السرعة وكانت حياته مهددة، وكان هنري مارش يومها طبيبا حديث التخرج، يقول بقينا أسبوعا ننتظر أن تجرى له عملية جراحية ونحن على أشد الترقب والخوف، ليس هذا فقط بل عندما انتهت العملية لم يقابلنا أحد فيخبرنا بالنتيجة، وكان علينا الانتظار قبل أن يتشرف الجراح ويكرمنا بالمعلومة: إن ابنكم على ما يرام.

كان هذا درسا لي لبقية حياتي أن أخبر الأهالي فور نهاية العملية بالنتيجة.

كان الرجل مولعا بالموسيقى وهو يجري العملية، حتى تاب عن ذلك توبة نصوحا ويروي سبب ذلك أن جراحا مشهورا اتصل به وقال له؛ هناك مريضة معها ورم كبير في الدماغ، لقد استشارتني بمن يجري لها العملية؟ فنصحتها بك، وأنت شاب قوي أثق أنك ستجري العملية فهي كبيرة علي في مثل عمري. يقول هنري مارش انتفخت غرورا وقلت هذا الجراح المشهور يدل علي ويوصي بي مرحى مرحى.

وهكذا دخلنا العملية ونحن نقص ونثقب ونشق ونرقع وموسيقى باخ تعزف وابلا من القرع الأفريقي يجلجل آذاننا، ولكن المفاجأة كانت بانتظارنا. فقد طالت العملية وطالت وأخذت 16 ساعة متواصلة، وفي النهاية بقيت قطعة من الورم كان يمكن تركها؛ فالورم كان كبيرا في حجمه حميدا في طبيعته، أصررت على ذلك وركبت رأسي، وقمت بشد المكان، مما حمل معه انقطاع الشريان المغذي للمنطقة وكانت كارثة؟

دخلت المريضة في حالة سبات (COMA) بعد العملية لم تستفق منها، وكان خطأ مني، وقررت على إثرها كسر الدف والطبل وتحريم الموسيقى في قاعتي، وبذلك أقفلنا نادي الموسيقى وللأبد. كان علي ترك هذه (النتوفة) محلها؛ وهكذا فالزيادة أخت النقصان. فعلت هذا لفرط الدقة والتصميم، ولكن أعترف فقد كان هذا خطأ مني.

يقول الرجل أنه كان في زيارة لدار عجزة بعد سبع سنين من العملية، ليلمح اسم المريضة على أحد الغرف، في حالة سبات عميق كما تركها، قد تحولت إلى كتلة لحم، وعلى ما يبدو حتى الممات.

إن الرجل يذكر أيضا بجراح أمريكي آخر هو هارفي كوشينج (Harvey Cushing 1869-1939) الذي سجل مذكراته الطبية في خمسة آلاف صفحة من الممارسة المهنية، كما سجل الأخطاء التي وقع فيها، ويصل فيها أحيانا إلى شتم نفسه، وكتب في ذلك كتابا بعنوان (الخطأ والملامة)، وجه فيها إلى نفسه نقدا قاسيا، وهو أمر نادر بين الأطباء، وإمكانية الاعتراف بالأخطاء فضيلة عظيمة.

تحدث جراح الأعصاب هنري مارش عن أخطاء أخرى وقع فيها ولكنه يضحك ويعترف بأنه أصبح بمنأى من المسألة لأنه ودع الطب وشهرته. وينصح بأن يتدرب الطبيب على مناقشة زملائه حول الحالات الصعبة فهي قوة وليست ضعفا. يقول عن اعترافاته بالأخطاء أنها بالعكس جعلت الكثير من الناس يراسلونه بمزيد من الثقة. وينصح الأطباء بأن أهم خصلة يجب أن يتحلوا بها هي الأمانة، وهنا نتذكر الآية من آخر سورة الأحزاب، تلك التي عجزت الجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.

ينصح أيضا ومن خلال خبرته أنه كان في الجلسة الأولى بعد كشف المرض، يقول بكلمات قصيرة طبيعة الإصابة، ويترك المعني لجلسة أخرى يتحدث فيها عن العلاج وما يلحق به. ومما يقوله بصراحة أنه لو كان شخص عنده ورم خبيث في الدماغ فما هو فاعل؟ يقول أتمنى الموت ولكن حين أواجه مثل هذا القدر وتتأكد الحالة فلكل حادث حديث.

الرجل حاليا اشترى لنفسه بيتا بسيطا ويشتغل في تربية النحل وهو منكب على إنتاج كتاب ثان، أما عن حياته العائلية فلم يتطرق لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى