شوف تشوف

الرأي

حوار بين فيلسوف وزوجته

بقلم: خالص جلبي

هجم علي رجل، قبل يومين، فعلق بي أشد من البعوض والذباب، وكلما فتحت له بابا من المعرفة قال: «ما فائدة هذه؟». وبالتالي فإن كل البناء المعرفي الذي تعب فيه الفلاسفة هو تضييع للوقت، وتهديد للدين، وتشويش للعقل. فتحملت الرجل على أمل كسر مغاليق عقله وتكشيرة دماغه، بأقفال أشد من أقفال خزائن قارون، وإن مفاتح لتنوء بالعصبة أولي القوة.
وأعتبر أن أعظم نصر نحققه هو الانتصار على بلادة العقل.
لماذا تسبب الفلسفة الصداع للبعض؛ بل هي في عين أناس خطر هدام، أو أنها هذرمة ومضيعة للوقت، ولا علاقة لها بالحياة، لماذا يستخدم الناس استخفافا كلمة لا تتفلسف أو هذا جدل بيزنطي؟
إذا أردت معرفة الفيلسوف فإليك بالمفتاح، فمن رأيتهم يقرؤون بنهم لا يشبعون، على جنوبهم وظهورهم وقعودا وقياما، ولو في مصعد، أو على الانتظار في بنك، فاعرف أنهم دخلوا محراب الفلسفة.
ومن رأيت فيه براءة الطفولة، وحس الاندهاش، وروح الفضول لمعرفة كل شيء، فاعلم أنه اقترب من محبة الفلسفة.
إذا ما هي الفلسفة؟
يبدو أنه لا يوجد اتفاق حولها، وعلى كل حال فقد أعلن (كارل ماركس) موت الفلسفة.
ولكن الإيطالي (غرامشي) قال إن كل واحد منا فيلسوف، ولكن بطريقته الخاصة. وفي يوم اعتبر (أفلاطون) أن العالم سيكون بخير لو حكمه الفلاسفة، ولكن (روبرت دال) في كتابه «الديمقراطية ونقادها» يعتبر أن هذا مستحيل وطوباوي ونظري.
وبعض الفلاسفة يرون أن كل المعرفة سطحية، وغير يقينية، مثل الفيلسوف البريطاني (بركلي)، ولا يوجد معنى لأي شيء. فدماغنا هو الذي يحدد العالم!
أما (برتراند راسل) فقد وصف الفلسفة بأنها تلك المنطقة التي لا اسم لها، بين الثيولوجيا والعلم، مكشوفة للهجوم من الطرفين؛ وبقدر وضوح ويقينية أجوبة الدين، بقدر إدخال الفلسفة الشك لمحتوى كل شيء بما فيه الدين.
وفي يوم تناقشت امرأة مع زوجها فقالت: أليست الفلسفة ببساطة هي ما يفعله الفلاسفة؟
أجابها زوجها: إنه تعريف تحليلي عصري نموذجي للفلسفة.
قالت الزوجة: كل الفلاسفة رجال، أليس كذلك؟
انتفض الزوج مرعوبا وقال: لا أعلم لست فيلسوفا.
قالت الزوجة: إذا أنت بكل تأكيد لست فيلسوفا؟
قال الرجل لست متأكدا ولم أفكر فيه، ويبدو أنك تعرفين ما هي الفلسفة إذن؟
قالت الزوجة: على قدر معرفتي فإن الفلسفة هي التفكير بالتفكير.
قال الزوج: ولماذا تعتقدين بذلك؟
قالت الزوجة: حسنا فكر في أي شيء يحيط بك، ولو كان سعر أتفه شيء؛ فأنت تفكر في ما تفكر فيه، وكيف تتصرف حياله؟
قال الزوج: معك حق إنه تحري الأشياء بدقة، ولم أكن أفكر بالأمر هكذا من قبل. قالت الزوجة: بالطبع لا… ولكنها بداية على كل حال.
ويقول (كارل ياسبرز)، الفيلسوف الألماني الوجودي: يبدو أن محور تاريخ العالم يمر في القرن الخامس قبل الميلاد باستيقاظ الروح الإنسانية، وهي فترة تمتد بين 200 و800 قبل الميلاد، حيث انبثقت معظم التعاليم الروحية، مثل كونفوشيوس ولاو تسي في الصين، والأوبانيشاد وبوذا في الهند، وزرادشت في فارس، والعهد القديم التوراة في فلسطين، وهوميروس ومعظم الفلاسفة والتراجيديين في اليونان.
وربما كان طاليس أول فيلسوف يوناني، إن لم يكن أول فيلسوف إنساني؟
ويبدو أن هذه الحقبة، أي القرن السادس قبل الميلاد، التي يسميها ديورانت (القفزة أو الطفرة الروحية) كانت مفعمة بالحيوية ونشاط الفكر، وهناك إجماع بشكل عام على هذه البداية، ولكن لماذا انبثقت في اليونان، تحديدا مع القرن السادس قبل الميلاد، مع طاليس؟
وفي كتاب «الفلسفة للمبتدئين» يقول (ريشارد أوزبورن Richard Osborn) إن اليونان في القرن السادس قبل الميلاد تحولت عبر البحار إلى مركز تجاري ناشط، بعد طرد التحدي الفارسي، والنجاة من العبودية الشرقية، فتطور العقل أمام صدمة الطغيان؛ فأنتج خيرة العقول، وبنيت الديمقراطية، وطوروا لغة تحدد المفاهيم، ومخروا عباب البحار، ونمت الفنون الدرامية، وسيطرت مفاهيم من نوع القانون والضرورة أكثر من الفوضى والعبث، وورثوا الحضارة المينوية من كريت، وأخذوا علم الهندسة من مصر، وعلم التنجيم والتقويم من آسيا الصغرى.
وليس هذا كله يقينا؛ أن يكون عنصرا حاسما في سر انبثاق العقل في تلك الأرض الصخرية.
فهل يمكن أن نفهم لماذا ولد العقل «اللوغوس LOGOS» عندهم؟
ربما عندنا جواب وربما لا، ولكن الأكيد أن التخلص من الطغيان الفارسي والتحرر وانطلاق العقل، جعل اللوغوس يعمل بكل طاقته؛ فولدت الفلسفة من رحم الثنائي «العقل» و«الحرية»، كما تولد الكائنات من البويضة والحيوان المنوي في رحم امرأة مخصبة.
ويتعجب المرء اليوم من الفارق بين اليونان اليوم وأثينا القديمة؛ فاليونان مع عام 2010 م مريض اليورو قد أشرفت الدولة فيه على الإفلاس. ويعتبرها الجرمان الرجل المريض على البوسفور الأوروبي، كما كانت دولة العصملية في يوم. ويحك الألمان ذقونهم ورؤوسهم، كيف ينقذوا مقر الفلسفة القديم، الذي أصبح مكانا للفساد والرشوة والهبوط العقلي والانحطاط الخلقي. وكان آخر اقتراح فرض الوصاية الاقتصادية على اليونان، فجماعة أرسطو الجديدة تدينت وغرقت في الدين، ثم عرف أن المبلغ الذي صرحت عنه هو ثلث المبلغ المقترض!
وتلك الأيام نداولها بين الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى