حماية العقل العربي
يتصف المدير السيئ بسبع خصال، ولو كنت في مركز لحماية العقل العربي فيجب أن يدخل من ثمانية أبواب إلى جنة العقل، وإذا كانت أبواب جهنم سبعة لكل باب منها جزء مقسوم، فإن أبواب الجنة تزيد بابا فهي ثمانية.
1 ـ من تأليه القوة إلى توحيد الله.
2 ـ من العنف إلى الحوار.
3 ـ من التقليد إلى التفكير.
4 ـ من الفوضى إلى المنهجية.
5 ـ من الخوارقية إلى السننية.
6 ـ من النص إلى الواقع وبالعكس.
7 ـ من الظن إلى العلم.
8 ـ من اتهام الآخرين إلى نقد الذات.
في كتاب (ضغط العمل طريقك إلى النجاح STRESS FOR SUCCESS by DR. PETER HANSON ) الذي ألفه الطبيب (بيتر هانسن) وضع سمات بارزة للمدير السيئ. ويبدأ حديثه بهذه الجملة المعبرة (ولكن قبل أن نزيل الغبار عن وسام الإخفاق الذهبي يبدو من الحكمة استعراض أعداد الرؤساء الذين يستحقون هذا الوسام).
ويمكن اختصار هذه الأوسمة في أن أهدافه غير واضحة، فهو مشوش الذهن غير منظم التفكير (CONFUSED)، وهو لايفوض أي سلطات للآخرين بل يحرص على المركزية المكثفة، كما أنه يضيع وقت العاملين بالاجتماعات التي لا طائل تحتها، ويتصف بأنه انتهازي عديم الأخلاق. أما حياة الموظفين الخاصة فلا وجود لها في سلم أعماله، وهو لا يقول كلمة ثناء واحدة في حق من يحقق إنجازاً، ولكنه يتكلم دائماً عندما يرتكب أحد الموظفين خطأ ما، ويميل إلى الالتزام الحرفي بالنظم الإدارية فهو يرى أن القوانين يجب اتباعها حرفياً ولو أدت إلى العنت والحرج في العمل، فالعبرة بما جاء في النصوص، ولا يفهم أن القانون وضع للإنسان وليس الإنسان للقانون في فهم مقلوب تماماً. كما أنه يعتمد كثيراً على الاهتمام بمنظر الأبهة في المكتب ويظن أن هذا سيمنحه الهيبة، والانضباط. ويختم الطبيب هانسن المشكلة بهذه الفقرة: (إن مجرد توصلك إلى حقيقة تعرفك على أوجه قصورك يعطيك امتيازا على كافة المديرين السيئين تقريبا. فحتى أصغر موظف في السلم الوظيفي هو في الحقيقة رئيس نفسه، ولهذا ففي حين أن الكثيرين من الناس يشكون أن لديهم رؤساء سيئين، إلا أن النتيجة الطبيعية أن معظمنا هم رؤساء سيئون، إن لم نكن كذلك بالنسبة للآخرين فبالضرورة لأنفسنا، وفي بعض الأحيان يكون الضرر الذي يحدثه رئيس سيئ أكبر حجماً مما يتراءى لنا وقتها). إن إجراء كشف صحي لنفسياتنا أمام هذا الاختبار من الأهمية بمكان فكلنا مدير في مكان ما.
ولكن إدارة حماية العقل العربي من نوع مختلف، فلو كنت في مكان القرار لحاولت حماية العقل من مزيج ثمان من (العنف) و(الخرافة) و(التقليد) و(الفوضى) و(تأليه القوة) و(حرفية النصوص) و(الظن) و(الهوى) و(عدم القدرة على مراجعة الذات) فهذه أبواب ثمانية لابد من إغلاقها وفتح ما يقابلها.
وإذا أردت اختصار ما مر بثلاث كلمات خفيفات على اللسان ثقيلات في الميزان لقلت: أن ينمو عقله بدون حدود بتحريره من (الهوى) و(الظن) و( العنف)، وهو الثالوث الذي يدمر الإنسان والمجتمع. فمع (الهوى) لا ينفع عقل، ومع (الظن) لا يبقى علم، وعلى امتداد الآيات لم يدن القرآن قط العقل أو العلم بل اعتمدهما مصادر للمعرفة، ومع (العنف) نفتح الطريق إلى كل أنواع الخراجات الحادة والمزمنة في الجسم العربي.
واختصر القرآن كل الضلال في نصف آية فقال (ان يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) وعندما أراد ابن تيمية تحديد صفات (الإمام) اختصرها أيضاً في نصف آية (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) فقال: عندما تحرروا من (الشبهات) و(الشهوات) وهي تقابل الآية السابقة من سورة النجم. فهذا المزيج من الهدي أو القدرة على تنوير العقول هي بالتحرر من الهوى بلجم الشهوات والتحرر من الشبهات بإزاحة ظلمات الظن بنور الهدى. وأما العنف فهو مسألة مختلفة لأنه يختلط بمفهوم الجهاد في الإسلام فكان لابد من شرحه على شكل أوسع. وفي هذا الصدد نحن أمام ثلاث أفكار تأسيسية لفهم القرآن. الأولى ما أسميها (طوبوغرافية) القرآن أو ما يقابلها في الطب بعلم التشريح، أو تدرس للطلبة باسم الجغرافيا، وهي المرحلة التوصيفية للاشياء فنعرف من الجغرافيا أن (البيرو) بلد في أمريكا الجنوبية، وأن (هوكايدو) جزيرة في اليابان، وأن (هامبورغ) مدينة ساحلية في ألمانيا، فهذا مستوى أول في المعرفة. يتلوه كما في الطب فرعان آخران متممان للمعرفة هما (الفسيولوجيا) و(التطور) بشقيه الطبيعي والمرضي. وهذا النوع من المعرفة قام بتطبيقه (أوجست كونت) عالم الاجتماع الفرنسي فاعتبر أن المجتمع يظهر على شكلين الأول (أنثروبولوجي) في وضع (ستاتيك) جامد، والثاني تاريخي (ديناميك) متحرك، أو بتعبيرات (ابن خلدون) عن هذا التطور الخفي أنه (داء دوي شديد الخفاء لا يكاد يتفطن له الآحاد من الخليقة).
كان هذا أيام ابن خلدون ولكن الجنس البشري دخل في تسارع فجعل حركة المجتمع تنبض على شكل قفزات، وأصبح أطباء المجتمع يعرفون حركة مفاصل التاريخ ولم يعودوا آحادا.
الفسيولوجيا هي حركة أخلاط البدن وعمل خلاياه وأجهزته فنعلم عن لزوجة الدم والسيالة العصبية وعمل الهورمونات وقصور الكلية. ولكن التطور هو (صيرورة) الجسم عبر الزمن من الانقسام الخلوي وانتقال الكائن من حال إلى حال. فإن سار طبيعياً تعرض (للانهدام الذاتي) بعد عمر يطول أو يقصر حسب الكائن فيتأرجح بين الفراشة لعدة أيام والسلحفاة إلى ما يزيد عن قرن. وإن تعرض الكائن للانحراف المرضي أسلمته يد المنون إلى انقطاع، وهو المعروف بعلمي (الهستولوجيا) و(الباثولوجيا) فبالأول نأخذ فكرة عن عمل الخلايا العادي وتطورها المحتوم، وبالثاني نخرج بفكرة عن المرض الذي ألم بالعضو وأعطب النسيج.
وهذا الكلام يصدق في قسم منه على آلية فهم القرآن، فلا يمكن فهم آية معلقة في فراغ ما لم تأخذ مكانها في المنظومة المعرفية التي طرحها القرآن الكريم. ونحن (بالجهد الواعي) وتسخير (الأدوات المعرفية) من علوم شتى مثل الألسنيات والتاريخ والأركيولوجيا (طبقات الأرض) والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وتاريخ الأرض والكوسمولوجيا (علم الكون) نقترب أكثر فأكثر من فهم كلمات الله ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر. وهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. وهو هداية لمن جاهد في سبيل الله، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.
عندما كنت أناقش أحد رموز العمل الإسلامي في سوريا وكان بنفس الوقت أحد رموز العنف الكبرى، كان يستشهد بقسم من آية (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) ولكن هذه الآية هي قطعة من صورة (بانوراما) كبيرة فيجب أن نضم هذه الآية إلى (ألم ترى إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) كما يجب ضمها إلى آية (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يظاهروا على إخراجكم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) فهذا نوع جديد من (العلوم القرآنية). وإذا كان علماؤنا طوروا علوما مثل القراءات والتجويد وأسباب النزول، فيجب أن نطور نحن اليوم علوماً من نوع (طوبوغرافية القرآن) أو (الدراسات التاريخية القرآنية المقارنة) بحيث ندفع فهم القرآن إلى عتبة جديدة تعتمد كل العلوم الحديثة بالصوت والصورة، وعلماؤنا قديما كان عندهم عذر في عدم الانتباه إلى هذا اللون من المعرفة، وليس لنا اليوم عذر أمام تسارع المعرفة وانفجارها.