حل بالمغرب هاربا من الحرب فوضع تصميم منارة العنق

حسن البصري
في مدينة شاتورو الفرنسية يوجد زقاق يحمل اسم المهندس الفرنسي ألبير لابارد، وفي أغلب المعاهد الفرنسية المتخصصة في الهندسة المعمارية يحضر اسم ألبير في مرافق هذه المؤسسات التكوينية فضلا عن صور أعماله الخالدة في فرنسا والمغرب ودول أخرى، خاصة قصر الباب المذهب في مسقط رأسه ومنارة العنق بالدار البيضاء.
ولد ألبير في 29 نونبر 1883 وتوفي في 9 ماي 1978، كان معماريا فرنسيا قضى حياة مهنية طويلة، اشتغل في مشاريع تحديث المدن، بالإضافة إلى أشغال صناعية وتجارية ضخمة. لم يكن مجرد مهندس مقيد بأسس علمية صارمة، بل كان فنانا موهوبا جمع بين التشكيل والنحت والهندسة المعمارية، فضلا عن اشتغاله في مجال التعليم حين أصدر سلسلة من دفاتر الرسم المعماري في فرنسا ودول متوسطية أخرى.
ولد ألبير لابارد في بوزانساي بإقليم أندر الفرنسي، كان والده يملك متجرا للبقالة بالجملة، بينما كانت والدته خياطة وكان الابن الوحيد لهذه الأسرة، قالت أمه إنه كان يراقب أشغالها ويرسم لها بين الفينة والأخرى نماذج في تصميم الألبسة، بينما يحكي والده أن الفتى كان موهوبا في الحساب حين يساعده في متجره، لكن خاله المعماري هو الذي جعله يعشق هذه المهنة حين أقام عنده في باريس وظل يتابع أشغاله في ورشته بالبيت.
حين لمس فيه خاله عشق الفنون الجميلة، ساعده على الالتحاق بالمدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة. في 1905، ولأنه استأنس بالهندسة المعمارية قبل ولوج المدرسة فقد صنف في خانة الطلبة الموهوبين وحصل على عدة جوائز.
عندما تخرج كان من الطبيعي أن يشتغل مع قريبه متدربا في مكتب هندسة، قبل أن يلتحق بمكتب المهندس المعماري الشهير بروست، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى تم إلحاقه بساحة المعركة لكنه تعرض لإصابة بالغة مكنته من مغادرة الجبهة والعودة إلى باريس، هناك اقترح عليه بروست الانتقال إلى المغرب للعمل في مصلحة تخطيط المدن التابعة للإقامة العامة الفرنسية وليكون مساعده في مهامه، فقبل العرض.
في 1915، ذهب لابارد إلى المغرب وكلف بإعادة تصميم الحديقة الكبرى بالدار البيضاء، وشرع في إنجاز مشاريع تحديث المدينة، مع مراعاة النمط المغربي في البناء، ما جعل أعماله تجد لها مكانة في وجدان المغاربة، وكان وراء فكرة إنشاء أحياء يتعايش فيها المغاربة والفرنسيون، وبرع بالخصوص في تصميم الجزء الأكبر من حي الأحباس بالدار البيضاء.
كان لا بد لهذا المهندس المعماري أن يسهر على إعادة تأهيل مقر الإقامة العامة ومقر سكنى المقيم العام والحدائق الكبرى للعاصمة، وكان يحرص على إعمار الدار البيضاء ويراهن على بلوغها أعلى درجات التمدن الذي انطلق عام 1919 واستغرق عدة سنوات.
قابل لابارد الكثير من زبائنه ومن المهندسين وهو في المغرب، وظل يعرض أعماله عليهم لأن رأيهم كان يهمه، بل إن رسوماته ظلت تزين كتاب جان گالوتي بعنوان «الحدائق والمنازل العربية في المغرب» الصادر عام 1926 وكتبه وهو في باريس.
عاد إلى فرنسا عام 1920 وواصل مهنته المعمارية بالحماس نفسه، بعد عبور لم يتجاوز الخمس سنوات كانت كافية لترسخ اسمه في الرباط والدار البيضاء وفاس أيضا، وكان يعتبر العمارة كائنا حيا يحرك المشاعر وليس مجرد بناية من إسمنت مسلح، وكان يعارض الهدم والتخريب باسم تطوير الأحياء القديمة.
ظل اسم لابارد منقوشا على منارة في حي العنق بالدار البيضاء، هذه المنارة، التي تحمل اسم الرأس البري حيث شيدت، هي أعلى منارة في المغرب. صممها المهندس لابارد، شرع في بنائها ابتداء من 1916، وشرعت عمليا في العمل مع منتصف عام 1920، حيث ساعدت في تطور مدينة الدار البيضاء، ويسرت الولوج إلى الميناء الذي كان يعتبر مرفأ خطيرا قبل إضاءة المنارة.
المعطيات التقنية المتوفرة حول المنارة، تؤكد أن أضواءها تصل حوالي 55 كيلومترا، مجهزة بعدسة وتقنيات ضوئية سابقة لأوانها، ويبلغ علوها 161 مترا، وهي من أكثر المقاصد السياحية في الدار البيضاء ارتفاعا، أما الوصول إلى المنصة العليا فيتطلب 256 خطوة، وتتواجد ما بين جامع الحسن الثاني وكورنيش شاطئ عين الذئاب، ويرجع سبب التسمية إلى حي العنق الذي تقع فيه المنارة.