كل يوم يمر من دون إعلان هزيمة روسيا في أوكرانيا، يُصعب وقوع هذه الهزيمة، ويمنح موسكو طاقة أكبر على مواصلة الصراع، ويُضيق خيارات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ويغير الموقف الدولي إزاء الأزمة لمصلحة الرئيس بوتين.
سيرى الكثير من النقاد أن الموقف الدولي الرافض للسلوك الروسي إزاء أوكرانيا ما زال صلبا ومتماسكا، وسيكون تقديم الدليل على ذلك الاستنتاج سهلا، إذ سيتم الاستشهاد بنتائج التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
والذي جرى مرتين، أولاهما حين اندلعت الحرب قبل نحو 13 شهرا، وثانيتهما في الذكرى السنوية الأولى لاندلاعها، وفي الحالتين أدانت أكثر من 140 دولة العملية العسكرية الروسية إدانة شديدة، ولم يعارض القرار سوى عدد محدود من الدول يزيد بالكاد عن أصابع اليد الواحدة، فيما امتنع بضع عشرات من الدول عن التصويت.
تشير تلك الحصيلة ظاهريا إلى صلابة الموقف المعارض للسلوك الروسي، وإلى استمرار الموقف الرافض لهذا السلوك متماسكا ومتسقا، لكن نتائج هذا التصويت لا تعكس بدقة الواقع على الأرض، وهو الأمر الذي التفتت إليه مراكز تفكير ووسائل إعلام غربية كبرى، وراحت تنبه من خطورته.
لقد بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها الرئيسيون عملهم في هذا الملف بالتركيز على فكرة هزيمة روسيا استراتيجيا، عبر جرها إلى حرب استنزاف طويلة داخل الأراضي الأوكرانية، تتخلخل خلالها السياسة الروسية، وتفقد قدرتها على الحسم، ومع خنق الرئيس بوتين بالعزلة والعقوبات، تتفاقم الضغوط عليه، فتكون هزيمته وانسحابه مدحورا إلى داخل حدوده الحل الأمثل له، مقارنة باحتمالات زعزعة مكانته وتثوير المعارضة الداخلية ضده تمهيدا للإطاحة به.
لكن استمرار العملية العسكرية من دون توقف استراتيجي، ونجاحها النسبي في تحقيق بعض الأهداف الميدانية والسياسية، وصمود موسكو في مواجهة العزلة، بل وقدرتها على تحقيق اختراقات نوعية في هذا الملف، عبر تليين مواقف بعض الدول، والتحايل على قيود العقوبات، كلها عوامل قللت إلى حد كبير من إمكانية الثبات على الاستراتيجية الغربية، وأعطت إشارات موحية إلى ضرورة استبدال هدف جديد بها، وهو أمر كان محل جدل وتفاوض أثار الكثير من الارتباك في المعسكر الغربي.
لا يمكن القول إن بوتين هُزم في أوكرانيا، أو إنه أخفق في تحقيق أي انتصار، رغم أنه بدا لكثير من المحللين أنه وقع في خطأ كبير حين قلل من تقدير حجم الصلابة الأوكرانية المتوقعة، مقابل الإفراط في الثقة في قدرة الآلة العسكرية الروسية على حسم المعركة ميدانيا في وقت قصير.
ومع ذلك، فإن القراءة الموضوعية للموقف الروسي الراهن تشي بأنه ما زال يمتلك زمام المبادرة، وبوسعه أن يجد حلولا يمكن أن تعزز مركزه العسكري والسياسي، وهو الأمر الذي أربك أعداءه ونقاده، وساعد على التفكير في تغيير الهدف المبدئي لهم، من إلحاق الهزيمة الاستراتيجية بموسكو، إلى إيجاد حل آخر ما زالت ملامحه في طور التشكل.
لطالما كان احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها، والابتعاد عن استخدام القوة مسألة ضرورية أخلاقيا وسياسيا، لكن السلوك السياسي والعسكري لأطراف أي أزمة، وما تفرضه توازنات القوة على الأرض، قد تدفع هذه الأطراف لإيجاد حلول وسط، وهو أمر حدث على مدى التاريخ باطراد.
من أهم الأسباب التي عززت الوضع الروسي الراهن أن واشنطن لا تمتلك الوجاهة الأخلاقية والسياسية الكافية لإدامة الموقف الأممي المناهض للتدخل الروسي في أوكرانيا، بالنظر إلى أنها صاحبة ميراث عريض ومتراكم من التدخلات العسكرية وعمليات الغزو التي لم تجد ذرائع أخلاقية أو سياسية كافية عادة لتسويغها.
وبخلاف هذه الذريعة الأخلاقية، فإن ذريعة براغماتية أخرى لعبت دورا جوهريا في خلخلة الموقف الدولي المناهض للسلوك الروسي، إذ وجد بعض حلفاء واشنطن أن توجهها المحافظ الجديد على صعيد استخدام القوة العسكرية لا يخدم سياساتهم الدفاعية في مواجهة المخاطر والتهديدات، فيما برهن الروسي على مرونة أكبر واستعداد أقوى لاستخدام مقدراته العسكرية لمساندة حلفائه ودعمهم.
كان صمود أوكرانيا ونخبتها السياسية والعسكرية في تلك الأزمة الطاحنة أحد عوامل استمرار المساندة وضخ المزيد من المساعدات والأسلحة والعتاد لها من قبل حلفائها أو «عرابيها»، وهو أمر يحدث دائما في الأزمات الكبرى، ولذلك فقد حدث مثله مع الروس الذين لم ينكسروا أمام الإدانة والعزل والعقوبات.
إذا ركزت الأطراف المعنية والمؤثرة في الأزمة الأوكرانية على إيجاد حل وسط يحفظ ماء وجه جل المنخرطين فيها، ويحقق مصالح حيوية متوازنة لهم، سيُمكن تفكيكها قبل حلول ذكرى اندلاعها الثانية، لكن التشبث بالحلول الصفرية، واستهداف تحقيق النصر الساحق، سيُعمقها، ويوسع تداعياتها الكارثية، وهي تداعيات ستطول العالم أجمع وليس أطرافها فقط.
ياسر عبد العزيز