في دار للمسنين بضواحي الدار البيضاء، قد يلفت نظرك رجل سبعيني متحصن في سريره، تأكد من ألبوم صوره الذي تنبعث منه رائحة الدواء، أنه كان يوما حكما متجولا بين العصب قبل أن يصبح نزيلا متجولا بين دور الرعاية الاجتماعية.
حين تقترب من «با عمر»، يسدد إليك نظراته الصارمة ويقابلك بتقاسيم وجهه الحادة، وكأنه ما زال يمارس مهنة تحكيم مباريات الكرة.
قالت المسؤولة التربوية، وهي تحاول انتشال الحكم الذي رمت به الأقدار في دار المسنين، من عزلته:
“با عمر كثير التشكي، حريص على التفكير بصوت مسموع، لا يتردد في مطالبة الإدارة بالحزم في حق نزيل ولو بسبب حالة سعال”.
لم يتخلص الحكم من كاريزماه رغم ما فعل به الزمن، حتى اعتقدت أن المديرية الوطنية للتحكيم عينته حكما للشرط في دار المسنين، وأنه ما زال يحتفظ بالبطاقتين الحمراء والصفراء يهش بهما على رفاقه في الوقت الإضافي من العمر.
اشتكى «با عمر» من تقنية «الفار» واعتبرها بدعة تفضي إلى ضلالة، واستغرب من تغيير ألوان بذل الحكام التي كانت في زمن مضى سوداء ترعب اللاعبين وتجعل «لاربيط» قاضيا.
لا تزور جمعيات الحكام والمديرية الجهوية والوطنية وهيئات الرفق بالحكام، حكمنا في خلوته، لا تسأله عن سر طرده من بيت العائلة ودفئها إلى دار للمسنين، لا تكلف نفسها عناء التقصي في الخطأ المرتكب والذي استحق من أجله الإجلاء إلى هذا المرفق بعيدا عن رائحة العرق وغبار الملاعب المتربة التي طالما ركض فوقها.
تقول المشرفة على الجناح إن الحكم السابق ينأى بنفسه عن تجمعات باقي النزلاء، يحافظ على ما تبقى من كبرياء، يحرص على الحياد وكأنه ما زال يمارس مهنة التحكيم.
مناسبة هذا الاستهلال هي التقاعد الدرامي لحكمنا المغربي محمد النحيح، الذي أعلنه تلفزيونيا في ملعب سانية الرمل قبيل مباراة المغرب التطواني والجيش الملكي. كان المشهد يحتاج فقط لموسيقى تصويرية غارقة في الحزن، بعد أن نجح المخرج في اصطياد ملامح وجه الحكم وهو يحاول مصادرة دموع الوداع.
تسللت مع اللقطة الحزينة تهنئة منفلتة يردد صاحبها عبارة: «على سلامتك»، وتبين أن النحيح سيقلب صفحة التحكيم، رغم أنه في أوج العطاء، ورغم أن الموسم الكروي لم يلفظ أنفاسه بعد، فإن الرجل سيطلب الصفح من أفراد أسرته ليقضي معهم ما تبقى من سنوات.
ليس النحيح المتقاعد الوحيد من بين كوكبة حكام النخبة، فقد وضع آخرون أقدامهم في خط الوصول إلى التقاعد، على غرار رضوان جيد ومحمد بلوط، ويوسف هروي وحملة صفارات ورايات آخرين، سيقطعون مع لغط نهاية الأسبوع وضغط المباريات وسيفتحون صفحة جديدة في كتاب «اعتزلت الصفير».
كان الله في عون حكام لا ينتزعون تصفيقا من مشجع حتى لو قدموا أداء خرافيا. كان الله في عونهم لأن رصيدهم من الشتائم تجاوز الحدود، ولأنهم ألفوا مغادرة الملاعب تحت حماية البوليس.
خلافا للحكام الذكور، تتفادى الحكمات المتقاعدات الكشف عن بلوغهن سن التقاعد، وحين تضطر حكمة للتعبير عن شعورها بعد انتهاء الخدمة، تردد عبارة: «سأبدأ حياتي».
في تاريخ التحكيم الفرنسي، قصة يذكرها الفرنسيون، حين تعرض الحكم هنري ديلوني، أثناء إدارته لإحدى مباريات البطولة الفرنسية مطلع القرن الماضي، لتسديدة قوية مفاجئة في وجهه أسفرت عن ابتلاعه صافرته التي كانت في فمه، مع فقدان اثنين من طاقم أسنانه. اعتزل هنري اللعبة وأصبح أمينا عاما للاتحاد الأوربي لكرة القدم ورئيسا للاتحاد الفرنسي، وندر «بو صفارة» حياته لخدمة الحكام.