حكاية الصياد الأحدب 1
كان في زمن بعيد، صياد يدعى علال، يعيش بمدينة أصيلا العتيقة، وكان أحدب، وعلى الرغم من إعاقته، فقد كان نشيطا يحب مهنته، فكان يتوجه فجر كل يوم، إلى البحر، حاملا قصبته وسلته الكبيرتين على ظهره طلبا للرزق. كان الصياد صبورا على المشاق التي يتكبدها في عمله المحفوف بالمخاطر، خصوصا قساوة البرد في ليالي فصل الشتاء، لكنه كان مكافحا يتحلى بالجلد طيلة أيام وفصول السنة.. كان الشاطئ آنذاك رمليا، يبتدئ من «قادوس الكرنة» إلى «حومة اليهود» وما بعدها، كان الشاطئ في غاية الجمال والسحر.
ورغم انحناءة الصياد التي تلازمه بسبب إعاقته، فقد كان صلب العود قوياً ينجز عمله الشاق وحده دون مساعدة رفيق، فقد جرت العادة أن يترافق صيادان في مثل هذه الحرفة. بعد أن يضع السلة على الرمال جانبا، يغرس سفودا في الرمال المبللة قرب انكسار الأمواج، ثم يربط به حبلا موصولا بأحد طرفي الشبكة المعلقة على كتفه بدقة متناهية تجعلها تنحني بسلاسة ويسر عندما يقصد عمق المياه من دون خوف أو تهيب، رغم عدم إتقانه للسباحة. فيظل يشق طريقه في البحر بتؤدة وهدوء في عمق المياه الساكنة سكون الليل وعتمته، إلى أن يشعر بالماء قد وصل إلى الحد الأقصى من عنقه، وكأن الروح قد بلغت الحلقوم، حيث يظل مشرئباًّ برأسه إلى الأعلى كأنما يحاول اقتفاء أثر طيف في الأفق، وبعدها يعود قافلا من الجهة الأخرى وهو يرسم نصف دائرة وهميا، إلى أن يخرج من البحر مبللا وهو يرتجف من شدة البرد، خصوصا حينما يكون الفصل شتاء، أما في بقية الفصول فهو غير عابئ… وعندما يستوي في الجهة المقابلة للسفود، يبدأ في سحب الشبكة التي تكون عسيرة الجر في بعض الأيام وسريعة السحب في أيام أخرى، وذلك راجع إلى كمية السمك العالقة في الشبكة.
كان علال وسيم المحيا رغم «حدبته» النكراء ذائعة الصيت والشهرة، ومع ذلك كان بشوشا حسن المعشر، عطوفا على صغاره وأبناء حيه، غير متجهم ولا عدواني، لا يعرف الحقد، راض بما قسم الله له من نصيب في هذه الحياة الفانية، فكانت سلته لا تعدم أبدا الرزق الوفير والخير العميم، يوزع قسطا منه على الجيران من دون مقابل، ويحتفظ بقسط غذاء عياله، والباقي يحمله إلى «البلاصا» لبيعه، ثم يتبضع ما يلزمه من حاجيات لبيته بما حصله من عرق جبينه. بعد ذلك يقضي بقية يومه في مقهى «الزريرق» موزعا مرحه بين الأصدقاء الذين تتخلل قفشاتهم وحكاياتهم كؤوس الشاي الأخضر المنعنع ذي النكهة الرائعة، والنكات المضحكة، بين «شقفة كيف» و«سيجارة مفتوحة» وقهقهات لا تتوقف، في حين تنزوي فرقة «الطربنجي» الموسيقية في الركن المعلوم جنب النافذة الزرقاء، التي يطل منها «مغايث» لمد كؤوس الشاي «المدرح» والقهوة المنكهة بالقرفة والليمون للزبناء المتحلقين المنتشين بعبق الكيف و«المعجون»، والمتمايلين على إيقاع الموسيقى والطرب، مشنفين أسماعهم بالمقطوعات الموسيقية العربية من أيام الزمن الجميل، أو موسيقى العيطة والطقطوقة الجبلية التي تعزفها الفرقة في كل مساء. (يتبع…)