حقيقة المفاجأة الليبية
سامح راشد
كنت قبل أسبوع، على إحدى القنوات الفضائية، أحد أطراف حوار عن الحراك السياسي والدبلوماسي المتصاعد بشأن تسوية الأزمة الليبية. بعدما استقبلت طرابلس في يوم واحد وزيري الدفاع القطري والتركي ووزير الخارجية الألماني. وكانت الزاوية الأهم التي حاولت لفت الانتباه إليها، هي المتعلقة بالتحول المنتظر في المواقف والتحرّكات، وخصوصاً من القوى المعنية مباشرة بالملف، أي طرفي الصراع الداخليين (حكومة الوفاق والبرلمان في طبرق)، إضافة إلى القوى الإقليمية المعنية، وخصوصاً مصر وتركيا. وكانت النقطة المهمة أن الوقت ليس في مصلحة أي طرف، حيث سيدفع تبادل الحشد العسكري حول سرت إلى اندلاع مواجهة مسلحة، بهدف تثبيت أمر واقع جديد، بعدما وصلت الاستعدادات العسكرية واللوجستية داخل مدينة سرت وحولها إلى مرحلة التشبع، وهو ما يتطلب تدخلاً عاجلاً من القوى الكبرى في العالم لنزع فتيل التوتر. وبعد أن كانت القوى الإقليمية، وخصوصاً مصر وتركيا، تناور وتداور وتستعرض عضلاتها العسكرية في مياه المتوسط في حربٍ نفسيةٍ متبادلة، فإن تداخل الملفات وتوافر الغطاء الدولي كانا كفيلين بتعقيد حسابات الطرفين، وإعادة الحسابات قبل تفجير الموقف.
صباح يوم الجمعة الماضي، خرج رئيس حكومة الوفاق، فائز السراج، ورئيس البرلمان في طبرق، عقيلة صالح، ليعلنا بشكل متوازٍ اتفاقاً لوقف إطلاق النار، ما يعني أن ثمّة فرصة، ولو ضئيلة، للحوار والتفاهم، وربما التوصل لاحقاً إلى اتفاق شامل. ووفقاً لتصريحات غير رسمية، جرت اتصالات كثيرة بين مختلف الأطراف، وخصوصاً من الولايات المتحدة. كذلك كان لألمانيا دور مهم في بلورة مداخل جديدة لتهدئة توافقية ومرحلة انتقالية، في اتّساقٍ مع مقرّرات مؤتمر برلين.
يبدو ظاهر الأمور، حتى هنا، طبيعياً، على أساس أن الطرفين الداخليين والأطراف الخارجية الداعمة لكل منهما قرّرت التخلي عن سياسة التصعيد والتهديد، والبحث عن مساحات للتوافق، غير أن قراءة متأنية في التعليقات الصادرة عن الجانبين تكشف حجم الفجوة بينهما، فكل منهما أكد ما يهمه من مكاسب ومصالح، وأغفل ما يهم الطرف الآخر. مثلاً، تتحدث حكومة الوفاق عن إخلاء سرت من السلاح، واستعادة السيطرة على موارد النفط وعوائده. فيما يبحث برلمان طبرق عن نزع سلاح المليشيات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق. وكلاهما أغفل الحديث عن الجفرة بصفتها نقطة ارتكاز جيواستراتيجي مهمة في المشهد الميداني، ومن ثم السياسي ككل.
المعنى أن الطرفين انخرطا في عملية تهدئة سياسية، نتيجة صعوبات المواجهة العسكرية ومحاذيرها، وليس اقتناعاً بالحل السياسي ذاته. لذلك، يريد كل طرفٍ حلاً سياسياً انتقائياً ومجتزءا يلبي مطالبه وحده. كذلك لم تصدر عن أيٍّ منهما إشارات ثقة في الطرف الآخر، ما يعني ببساطة أن العمل على المسار السياسي يفتقد الاطمئنان إلى وجود شريكٍ يمكن الاعتماد عليه، وهو ما أعلنه صراحة فائز السراج غير ما مرة عن فقدان الثقة في اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وعاد ليؤكده مجدّداً في البيان الصادر عنه يوم الجمعة، حيث قال بوضوح إن أية مفاوضات أو ترتيبات سياسية ينبغي أن تكون مع المؤسسات ذات الشرعية.
وهكذا يبدو واضحاً أن المفاجأة في الإعلان المتزامن لوقف إطلاق النار لا تعني بالضرورة التزاماً مطلقاً بالحل السياسي، ولا تضمن بالمرّة عدم النكوص عنه لاحقاً، فنقطة التعادل التي وصلت إليها الأوضاع الميدانية على الأرض لا توفر أسساً موضوعية أو مقوّمات واقعية تكفل إجبار أيٍّ من الطرفين أو حتى إقناعه بحتمية الحل السياسي. لذلك، المشكلة الأكبر ستظهر لاحقاً إذا حاول أحد الجانبين تغيير المعطيات على الأرض لتعظيم مكاسبه التفاوضية، وعندها ستكون المفاجأة الحقيقية للجميع بتفجّر الموقف الميداني في مختلف أنحاء ليبيا.