حقائق الصراع في مصر وأوهامه (2/2)
إزاء ذلك يغدو مبالغة غير مبررة القول بأن مصر في معركة مع الإرهاب، الأمر الذي يستدعي تأجيل الإصلاح السياسي وغض الطرف عن التجاوزات والتوسع في الإجراءات الاستثنائية والمحاكمات. أقول ذلك لأني سمعت هذه الحجة على لسان أكثر من مسؤول، كما أن الفكرة تُطرح باستمرار في وسائل الإعلام باعتبارها واقعاً نعيشه وحقائق مسلَّمًا بها. ومن المفارقات أن الذين يتبنون الفكرة يعتبرون ترديدها وفاء لدماء شهداء الجيش والشرطة، ويردون على مغايريهم في ذلك بأنهم يفرّطون بدماء أولئك الشهداء. ووجه المفارقة هنا يكمن في توظيف دماء الشهداء لإسكات الأصوات الداعية للإصلاح. وتبرير الاستثناءات والتجاوزات يُعدّ نموذجاً للتغليط المعرفي والتدليس السياسي. إذ عندما نطلق دعوة الحرب ضد الإرهاب في عموم البلاد، بينما بقايا العنف مقصورة على سيناء، وما يحدث في بقية أنحاء البلاد يُعدّ من قبيل التجاذبات والمناكفات التي سبقت الإشارة إليها، فإن ذلك يعد ابتذالاً لدماء الشهداء واتجاراً بها.
لدى الباحثين وعلماء الاجتماع السياسي كلام كثير، ليس فقط حول الإرهاب الذي لا يختلف أحد على ضرورة مكافحته بقدره، ولكن أيضاً عن التطورات التي طرأت على توظيف المكافحة واستخداماتها. إذ تبين أنه في ظل الأنظمة غير الديموقراطية أصبح الإرهاب بمثابة العنوان الأنجح والأكثر قبولاً لإسكات المعارضين وتصفيتهم. وهو ما حدث بتوسع ملحوظ في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001، حين أعلنت إدارة الرئيس بوش حربها العالمية ضد الإرهاب التي تلقفها كل صاحب مصلحة، واستثمرها على هواه. وكانت النتيجة أن كل نظام في تلك الدول اعتبر معارضيه إرهابيين. وبمضي الوقت إزاء التوسع في القمع والتصفية بدعوى مكافحة الإرهاب، اختصر البعض المشهد في عبارة «قل إرهاب وعلق المشانق».
إذا كانت أسطورة الحرب ضد الإرهاب لها أصل جرى تعميمه، فإن أسطورة إسقاط الدولة التي يلوح بها في ثنايا الخطاب السياسي باعتبارها خطراً محتملاً لا أصل لها ولا فصل. ذلك أن الدولة المصرية أكثر رسوخاً وأشدّ تماسكاً وصلابة، بحيث يتعذّر أن تهزّها ريح عابرة أو ممارسات عنف طائشة من أي نوع. فلا وجه للمقاربة مثلاً بين حوادث العنف أو المشاغبات التي شهدتها مصر خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وبين الزلزال الذي ضرب مصر جراء الهزيمة الساحقة التي لحقت بها في العام 1967، حين انكسر الجيش ودمّر طيرانه، ووصلت القوات الإسرائيلية إلى ضفاف قناة السويس، وبشهادة الرئيس عبد الناصر آنذاك فقد كان الطريق في الإسماعيلية والسويس مفتوحاً بلا جيش ولا مقاومة من أي نوع، بحيث كان بوسع الإسرائيليين أن يصلوا القاهرة بغير عناء. ومع ذلك فإن النظام المصري صمد ولم يسقط. وما حدث بعد ذلك في حرب 1973 فيه بعض شبه. ذلك أن الاختراق الذي أحدثه الإسرائيليون في «الدفرسوار» أدى إلى عبورهم القناة ومن ثم حصار الجيش الثالث، الأمر الذي جعلهم على بعد مائة كيلومتر من القاهرة. تشهد بذلك المباحثات التي جرت آنذاك عند الكيلو 101 على طريق القاهرة ــ السويس، هذا الاختراق بدوره لم يؤدّ إلى سقوط النظام والدولة. ذلك فإن الادعاء بأن بعض التفجيرات والمظاهرات أو انتقاد أداء بعض مؤسسات الدولة يمكن أن يسقط الدولة المصرية يتعذّر أخذه على محمل الجد ويعد إلى الهزل أقرب.
إذا وجدت في ما سبق تحريراً لخريطة الصراع الحاصل على أرض مصر، وتنقيحاً يميز بين حقائقه وأوهامه، فقد حقق الكلام مراده. إن شئت فقل إنها ملاحظات ومراجعات تعيد التفكير في المسار الذي نحن أحوج ما نكون إلى مناقشته بعيداً عن إكراهات وضغوط مدرسة الرأي الواحد التي اختزلت الدولة في النظام والمجتمع في قيادته. ذلك أن مصر شهدت، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تحوّلات جسيمة لها تأثيرها على المستقبل لعقود عدة. والمستقبل الذي أعنيه متجاوزٌ حدود مصر التي تبنت رؤى استراتيجية مغايرة أعادت ترتيب أولويات العمل الوطني والصراعات الإقليمية. وكانت النتيجة أن الأمور التبست علينا بحيث ما عدنا نعرف بوضوح ما هي المعركة الحقيقية، ولا من يكون عدو الداخل أو الخارج. ولأنها بتلك الأهمية، فإن مناقشتها وتصويبها أولاً بأول يصبح واجب الوقت وكل وقت. وتلك فريضة غائبة لأن أصوات الهرج والتهليل غلبت على أصوات المراجعة والتصويب. وذلك وجه آخر للأزمة جعل من المراجعة مغامرة مكلفة وغير مأمونة العاقبة.