شوف تشوف

دين و فكر

حفريات في أرض التاريخ

بقلم: خالص جلبي

أثناء إقامتي في ألمانيا قمت بزيارة إلى قلعة أثرية في جنوب البلاد، ولفتت نظري لوحة جميلة تخلد معركة عسكرية، وبينما كنت أتأملها انتبهت إلى العمائم تغطي الرؤوس في أحد الجانبين المختلطين ببعضهما بين السيوف والدماء والأشلاء والقتلى، وعندما دققت النظر أكثر علمت أنها تخلد معركة أسوار فيينا المحاصرة من قبل الجيش العثماني، يوم 12 شتنبر من عام 1683 م.
في هذا اليوم العصيب وجه الوزير العثماني الأعظم إلى أهل فيينا الرسالة التالية ـ حسبما حفظتها الوثائق العثمانية التي تعود إلى زمن السلطان محمد خان الرابع، والتي نشرت في الكتاب الضخم عن مسلسل الرحلة البشرية عبر التاريخ (CHRONIC DER MENSCHHEIT = CHRONIC THE HUMANKIND): «إنني وبعزة الله وكرامة الرسول وولد القمرين الذي له كل الرفعة والفخر. أنا قائد جيش السلطان العثماني الأعظم، ملك ملوك الأرض. أقول لكم ولقائد النبلاء في فيينا الجنرال ستارهمبرغ، لتعلموا أنني وبأمر من سيدي الأكثر احتراما وتقديرا، الأقوى والأعظم والذي لا يقهر. والذي جئتكم بجيشه اللجب حتى مدينتكم فيينا هذه، من أجل ضمها إلى مملكته. إن استسلمتم له فبإمكانكم أن تنسحبوا بكل أشيائكم صغيرها وكبيرها، ومن يرغب في البقاء هنا صينت ممتلكاته. أما إن عصيتم وامتنعتم عن التسليم، اقتحمنا عليكم مدينتكم وقطعنا كل صغير وكبير بحد السيف. إنكم تعلمون نبالة سيدي التي يرعى بها رعاياه وسيفعله لكم. والسلام لمن أطاع وامتثل».
وفي صباح ذلك اليوم من خريف عام 1683 ميلادي الموافق 20 رمضان من عام 1094 هجرية، حصل انعطاف نوعي في تاريخ القارة الأوروبية، وقفزة قلبت ميزان القوى، الذي لن يعتدل بعدها مطلقا بين القوة العظمى العثمانية والدول الأوروبية، حيث اندفع الملك البولوني (يوحنا الثالث سوبيسكيJOHANN III SOBIESKI) وبقيادة شخصية منه مباشرة، على رأس وحدة من الخيالة المدربة كرأس حربة، وبجيش نجدة بلغ 65000 جندي قدموا من بولونيا، لفك الحصار عن مدينة فيينا التي كانت وما زالت تمثل قلب أوروبا، ولم تكن هذه هي الحملة العثمانية الأولى على فيينا فقد سبقتها حملة أخرى في عام 1663م.

آلية انهيار الدول
كانت الحملة العثمانية الثانية لدخول قلب أوروبا تمثل اختراقا نوعيا، كما تمثل في الوقت نفسه قمة الاقتحام العثماني للأرض الأوروبية، إلا أنه فشل، وهذا يعني بكلمة ثانية انكسار المخطط بغير رجعة، لأن مسلسل التراجع العثماني سوف يستمر في القرنين التاليين حتى تدخل الدولة العثمانية (العناية المركزة التاريخية)، حيث سوف تسمى بعدها بـ(الرجل المريض) على ضفاف البوسفور، ثم سوف يموت هذا الرجل المريض (مرض الهرم أو السرطان الذي لن يرتفع بعد)، ويقوم بدور إعلان الوفاة ومراسيم الجنازة المدعو (كمال أتاتورك) كما أَعلنت من قبل دابة الأرض عن موت نبي الله سليمان عليه السلام (فما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)، وبذلك تنفست الجن الصعداء عند موت النبي سليمان، كما تنفست جن أوروبا أيضا الصعداء مع الخلاص من القوة العالمية الإسلامية الأخيرة (ولو في صورتها المأساوية المريضة).
وبذلك نحرر وبشكل جانبي أمرين على غاية الأهمية: الأول العامل الداخلي هو الذي يلعب الدور الحاسم في إبراز الحدث إلى السطح، والثاني تفاهة الدور الذي لعبه كمال أتاتورك، فهو لم يقتل أو يلغي الخلافة العثمانية فهو أحقر وأضعف من دابة الأرض المذكورة في الآية، وإمبراطوريات عريقة هيهات أن تسقط بأمثال أتاتورك. إن أتاتورك لم يفعل أكثر من إعلان الموت وتوزيع بطاقات النعي، والسير في خشوع في جنازة الدفن الأخيرة، وغورباتشوف أيضا لم يفعل أكثر من هذا الدور مع الإمبراطورية السوفياتية. وهي محاولة لفهم (السنن التاريخية) التي عني القرآن بها أكثر من السنن البيولوجية والسنن الفيزيائية، وأعطاها صفة الديمومة والاستمرار على وجه ما ولن تجد لسنة الله تبديلا.

حفريات الحضارات
لقد اقتحم العلم وارتاد فضاءات جديدة هائلة منها الفضاء التاريخي والحضاري، فكما استطاعت الجيولوجيا وبواسطة الكربون 14 وعن طريق (استنطاق) حلقات الشجر التي تعمر القرون الطويلة، لتعرف ماذا حدث في الكون منذ قرون عف عليها الزمن واندثرت مع اندثار الذاكرة البشرية.
الشيء نفسه حدث مع (نكش ونفض) الحفريات لحضارات لم تعد تذكر في التاريخ (كما هو الحال في الحضارة الآشورية ذات النزعة الحربية التي أذاقت شعوب الجوار أصناف الويل والدمار، ثم طواها التاريخ فهل تسمع لهم ركزا؟).
كان الاختراق العثماني في حصار فيينا الثاني شبيها بالاختراق الذي قام به العرب قديما مع تجاوز جبال البيريني، بعد السيطرة على شبه الجزيرة الإيبيرية، عندما تحطم الامتداد العربي بدوره في المدى الأقصى الذي حاول تجاوزه، ولكن الفرق من جانب آخر كان كبيرا للغاية؛ فالعثمانيون كانوا يصارعون أوضاعا مختلفة للغاية في القرنين السادس عشر والسابع عشر عن الأوضاع التي كان العرب يتفوقون فيها في القرنين الثامن والتاسع.
بدأ حصار فيينا في الرابع عشر من يوليوز من عام 1683 م، وكان القيصر ليوبولد الأول النمساوي قد فر أمام الحملة العثمانية الرهيبة التي ضمت قرابة ربع مليون جندي مزودين بأفضل أسلحة ذلك العصر من المدافع والبنادق ذات الحشوة الواحدة، على ما جاء في الوثائق السلطانية من أيام السلطان محمد الرابع، حيث نقرأ صورا من مجريات المعركة، في هدم أطراف من سور البلدة، أو ضرب مجموعة من الأعداء (مما عجل بروح 40 – 50 من هؤلاء الأوغاد إلى جهنم!).
فشلت الحملة واندحر الجيش العرمرم، وأعدم الوزير الأعظم في بلغراد، عاصمة الصرب الحالية، في 25 دجنبر من العام نفسه سنة 1683 م، في أعياد الميلاد المسيحية، وكان البابا (إينوسنس الحادي عشر INNOZENS XI) خلف التحالف المقدس الجديد، حيث اتحدت القوة النمساوية مع قوة من ساكسونيا، وقوة من بافاريا (سكسونيا وبافاريا مقاطعتان في جمهورية ألمانيا الحالية)، بالإضافة إلى الجيش البولوني الذي ذكرناه سابقا تحت إمرة الملك البولوني يوحنا الثالث سوبيسكي. بل وأكثر من هذا، حيث ختم السلطان العثماني محمد خان الرابع فترة حكمه الأخيرة التي دامت أكثر من 40 عاما بهزيمة أشد هولا في السهل المجري في معركة (موهاكز في 12 غشت عام 1687 م)، ذلك السهل الذي خلد فيه الإنكشارية نصرهم الكبير قبل 160 عاما. ولكن ليست الذكريات ولا الأرض تمنح نصرا أو هزيمة، وإنما تغيير ما بالنفوس! (سنة الله التي قد خلت في عباده). حيث تم عزل الخليفة بعد ذلك ليموت في عام 1687م عن عمر يبلغ 53 عاما قهرا وغما، وليعين من بعده أخوه السطان (سليمان خان الثاني).

صعود أوروبا الفكري
كانت هزيمة القوة العظمى العثمانية ذات نكبة مزدوجة؛ فهي عجلت بالدولة العثمانية باتجاه التآكل والتحلل والتفسخ إلى جثة الميت، ليعلن أتاتورك الموت في نعوة عامة تاريخية. كما أعلنها غورباتشوف عن إمبراطورية كارل ماركس وستالين ولينين. وفي العام نفسه الذي مات فيه السلطان محمد خان الرابع عام 1687م كان (إسحاق نيوتن) يكتب فيه كتابه الرائع «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية»، فهل هذا له أدنى دلالة في إلقاء ضوء على الأحداث التاريخية وتفسير ما حدث…
لم يكن كتاب «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية» سوى القفزة النوعية في تاريخ العقل الإنساني، عندما يبدأ الدخول في مرحلة انعطافية جديدة في تفسير العالم الذي يحيط به، فالكتاب كان إذاً المدخل الجديد لفهم عالم جديد. وبالطبع لم يتفطن المسلمون الأتراك ـ فضلا عن المسلمين التابعين لهم، ذلك أن الأتراك العثمانيين كانوا يمثلون الطليعة والقيادة والخلافة للأمة الإسلامية آنذاك ـ إلى هذا التحول النوعي الذي يجري في العالم، من هنا كان قولنا إن التفوق العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية كان تفوقا حضاريا، وكان اقتحام العثمانيين عسكريا بالدرجة الأولى. فما الذي كان يحدث آنذاك في أوروبا؟
كان إسحاق نيوتن يضع الموشور الزجاجي أمام الضوء، ليرى تحلل أطياف الألوان السبعة للضوء الأبيض. كان يقوم بتطوير علم (التكامل والتفاضل)، توصل إلى قانون (الجاذبية) بين عامي 1664 و1666 م. كان يضع كتابه عن علم (البصريات) ويفسر الضوء على أنه جسيمات، وفي عام 1687م الذي ذكرناه كان يقوم بتطبيق قانون الجاذبية على حركة الأجرام السماوية وسقوط الأجسام على الأرض، ثم ليطور علم الديناميكا (بما في ذلك القوانين الثلاثة في الديناميكا المعروفة، التي تبدأ بقانون قصور المادة وتنتهي بقانون كل فعل له رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه)، ثم ليطور بعدها قوانين ميكانيكا السوائل.

الذهول الخفي عن تبدل أحوال الأمم
هذا هو الفرق بين الحقل الذي كان تعيشه أوروبا في ذلك الوقت، والمناخ الذي كان يعيشه العالم الإسلامي آنذاك، كان هناك شيء جديد يتفتح في أوروبا ونور عقلي يتألق، بينما كان الظلام بدأ في الإطباق على العالم الإسلامي على النحو المأساوي الذي انتبه إليه ابن خلدون في المقدمة، حينما كتب يقول أولا في الصفحة (28) عن التحولات الرهيبة التي تحدث ولا يتفطن إليها إلا الآحاد من الخليقة: «ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن إليه إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر. إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده».
وعندما يتحدث عن أفول شمس الحضارة الإسلامية يعبر بالشكل التالي إنه يدلي بشهادة العالم، ولا يتبجح أو يحاول إخفاء المرض، بل إنه ينظر بتحليق كوني مدهش (ص 33): «هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص ظلها، وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعال، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض؛ فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث».

هذا هو الفرق بين الحقل الذي كان تعيشه أوروبا في ذلك الوقت، والمناخ الذي كان يعيشه العالم الإسلامي آنذاك، كان هناك شيء جديد يتفتح في أوروبا ونور عقلي يتألق، بينما كان الظلام بدأ في الإطباق على العالم الإسلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى