شوف تشوف

الرأي

حفتر وإدمان الفشل

محمد كريشان
طالما لم أدخل طرابلس «فاتحا» فلأحتفظ ببنغازي عاصمة لي!… طالما لم تفوضني أي جهة رسمية فلأكتفي بالحديث عن تفويض هلامي وأعلن أني حاكم البلاد! … طالما لم أتمكن من شطب حكومة السراج فلألغي «اتفاق الصخيرات»، ولو أدى ذلك إلى شطب البرلمان الذي يقف جزء منه معي!
واضح أن خليفة حفتر كان يهلوس بذلك منذ إعلانه الأخير، فهو لم يعد يطيق صبرا بعد أن تمكن منه شبق السلطة بالكامل، فلم يعد بإمكانه أن يحتمل أكثر ولو أدى ذلك إلى وضع أصبعه في عينه، أو إطلاق رصاصة الرحمة على الهيئات التي تواليه.
لا أحد يدري بالضبط ماهية وحجم هذا «التفويض» الشعبي لحكم البلاد، الذي طلبه هو نفسه مساء الخميس فظفر به مساء الاثنين، ولا كيف أدرك سريعا، وعلى أي أساس، أنه هو شخصيا من اعتـُـبر «الأصلح لحكم البلاد»، ولا ما الذي سيفعله الآن بهذا التفويض، بعد فشله في الحسم العسكري الذي مني به النفس عبثا، رغم كل الإسناد الذي حصل عليه من دول ومرتزقة.
عندما يقرر حفتر إسقاط اتفاق الصخيرات الموقع بالمغرب في 2015، فإنه بذلك يسقط ذلك الخيط الذي كان يربطه بالشرعية التي يتنازعها مع حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، استنادا إلى جزء من البرلمان المنتخب الذي يدعمه واستقر أعضاؤه في شرق البلاد، لأن هذا الاتفاق السياسي الذي وقعه الفرقاء الليبيون عهد بالسلطة السياسية في البلاد إلى البرلمان المنتخب في عام 2014 (سلطة تشريعية) والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني (سلطة تنفيذية)، إلى جانب المجلس الأعلى للدولة. حفتر بما أعلنه كسر بنفسه الضلع الذي كان يستند عليه لتبرير شرعية ما، حتى وإن كان هذا الضلع يزداد اعوجاجا في كل مرة.
بهذا القرار يكون حفتر ألغى ما كان يقال، ويكتب من أن في ليبيا سلطتان تتنازعان الحكم: حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فايز السراج ومقرها طرابلس في غرب البلاد، وحكومة موازية يدعمها المشير حفتر والبرلمان المنتخب في شرقها. من الآن فصاعدا ستصبح الصيغة كالتالي: النزاع القائم في البلاد، بين حكومة معترف بها دوليا في غرب البلاد، وخليفة حفتر في شرقها أعلن نفسه حاكما للبلاد بموجب تفويض قال إنه حصل عليه ولا أحد يعرف تفاصيله!
لم يكتف الرجل بهذه «التخريجة» التي أقصى فيها الجميع بضربة واحدة، حتى تلك الحكومة والبرلمان اللذين كانا يعملان تحت إمرته الفعلية ولا يملكان من أمرهما شيئا، بل إنه أكد كذلك إصراره على مواصلة هجومه لـ«تحرير طرابلس»، الذي بدأه قبل عام رغم توالي خيباته العسكرية وسقوط مئات الضحايا وتشريد 200 ألف، وفق أرقام الأمم المتحدة.
لقد أصاب المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا في اعتبار ما أقدم عليه حفتر «هوسا بالسلطة بلغ مداه، وحمقا بلغ منتهاه» وبأنه «مسرحية هزلية»، وبأنه «انقلاب جديد يضاف إلى سلسلة انقلاباته التي بدأت منذ سنوات (..) حتى على الأجسام السياسية الموازية التي تدعمه والتي في يوم ما عينته، وبذلك لم يعد في مقدور أحد أو أي دولة التبجح بشرعيته بأي حجة كانت».
وعدا ما ستؤدي إليه خطوة حفتر الهوجاء من تكريس عملي لتقسيم البلاد إلى شرق يحكمه عسكري لا معقب لكلماته، وحكومة في الغرب تكابد لبسط سلطتها، فإن لا أحد يعرف ماذا سيترتب عن تحرك سيساهم في مزيد فضح مشروعه وفضح حلفائه القريبين والبعيدين، من مصر والإمارات بالخصوص إلى جانب فرنسا وروسيا، ولا أحد يدري أيضا كيف سيكون موقف هؤلاء من هذه الخطوة، وما إذا كان نسقها معهم أو مع بعضهم، ذلك أنها ستزيد في إحراجهم دوليا إذا ما اختاروا استمرار دعمه، سواء عسكريا أو سياسيا.
واضح أن الرجل ضاق ذرعا بفشله المتواصل في أن تؤول الأمور إليه وحده، فقرر أن يفعل ما فعل، لكنه لم يدر أنه بذلك إنما يعمق فشله الذي لن يكون قادرا على تجاوزه هذه المرة، بعد أن اهترأت مصداقيته بالكامل لدى أنصاره ومناوئيه على حد سواء. لقد أدمن الفشل فصار مرضه الذي لا شفاء منه، محاولا تعويض عقدة الأسر في حرب التشاد، وعقدة تجنيده من قبل الأمريكيين، وخياناته للمعارضة ضد القذافي (شهادة محمد المقريف، الأمين العام للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وأول رئيس للمؤتمر الوطني للجزيرة، تروي تفاصيل رهيبة).
هذا الرجل، المشبوه والأرعن والمتقلب وفق كل الذين عرفوه وخبروه عن قرب، بات عبئا حتى على داعميه الذين لم يعودوا قادرين على الدفاع عن حماقاته المتكررة، وساعات الصفر العديدة التي أطلقها بنزق أكثر من مرة. مزهوا بلباسه العسكري ونياشينه المتناثرة عليه ورتبة مشير لمن لم يخض إلا حروبا خاسرة، توهم حفتر أن كلمة «التفويض» السحرية التي استعملت عند جارته الشرقية بـ«نجاح»، كفيلة بإيصاله هو الآخر إلى الحكم فليس صاحبه في القاهرة بأفضل منه كما يرى، ناسيا أن هذه البهلوانيات لا تنجح دائما وأن الأرجح أنها هذه المرة ستسقطه أرضا وتكسر عظامه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى