حظ المصادفة من الاعتبار الصدفة العمياء أم التصميم الإلهي؟
بقلم: خالص جلبي
كل ما في الكون ابتداء من بناء الذرة حتى أعقد أشكال الحياة يشير إلى التصميم والقصد في بناء الكون والحياة، ولكن مع هذا فهناك شبهة تدور في ذهن البعض، وهي رد كل شيء إلى «الصدفة»!
والحق يقال إن الصدفة بذاتها أو فكرة المصادفة أو الاحتمالات لها قانون قائم بذاته يدرسه طلاب الجامعات في كلية العلوم، وله بحث قائم بذاته فليس هناك مجال لخبط عشواء.
ما هي فكرة المصادفة؟
هناك فرق بين خلق الشيء وترتيب الشيء أو تركيبه، حيث إن فكرة المصادفة لا يمكننا أن ندخلها لأن الوجود لا يحكمه قانون المصادفة بحال من الأحوال، وأما تركيب الأشياء فقد يبقى موضع بحث، كما أن حركة الشيء لا يمكن أن ترد إلى المصادفة، وهكذا تجد أن قانون المصادفة يبقى مشوها مبتورا منذ الأساس، فإلقاء حجر النرد ذي الوجود السداسية قد تلعب الصدفة دورها فيتكرر رقم واحد خمس مرات أو ست مرات أو أكثر، ولكن احتمال هذا نادر جدا، كما أن احتمال سحب أوراق مرقمة من 1- 10 وموضوعة في كيس واحد بصورة مرتبة متدرجة (بحيث إن الرقم 1 يأتي في الأول، ثم تتبعه الأرقام التالية بالترتيب) احتمال ضعيف ونادر، ولكن أنى لقانون المصادفة أن يلعب دوره في الوجود أصلا، أو في حركة المادة من الأساس؟
وهناك ظاهرة الحياة، حيث يبقى قانون المصادفة عاجزا عند هذه العتبة. فترتيب المواد بكيفية ما قد يوضع في مدار البحث، ولكن انبثاق الحياة من الموات يبقى عاجزا عن التفسير، كليلا في البحث، وهذه نقطة أخرى جديرة بالنظر.
أولا: الصيغته الحرفية لقانون المصادفة: «إن حظ المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الإمكانيات المتكافئة المتزاحمة. وإليك مثلا يوضح هذه الصيغة، وهو وضع عشرة أرقام مرقمة من 1 إلى 10 في كيس واحد. فإن احتمال أن يكون الرقم 1 هو الأول احتمال 1 من 10، لأن كل رقم من الأرقام العشرة قد يكون هو المسحوب، فالمصادفة ليس لها وجدان ولا ذاكرة، كما يقول الرياضي الكبير جوزيف برترند.
ثانيا: إن تطبيق هذا القانون إنما يتم على المادة غير الحية، فدراسة الاحتمال على ضغط غاز في وعاء أو خليط من غازات قد يصح، ولكن على الخلية وباقي الحياة فإنه يقف، لأن الترابط في الخلية مع ظاهرة الحياة معجزة ومحيرة إلى حد، يجعل هنا القانون غير ساري المفعول في هذا المجال.
ثالثا: حتى يمكن فهم هذه المسألة المعقدة فسوف نضطر إلى ذكر بعض أمثلة تحدد هذا القانون، ونبدأ بالبسيط حتى نصل إلى الصعب المعقد.
أمثلة وتفاصيل
المثل الأول: هو دور المصادفة الذي مر معنا وسوف آخذه بالتفصيل الآن، لو كان معنا كيس فيه عشرة أرقام 1- 10 وأردنا أن نسحب ورقة واحدة، فإن احتمال أن يكون الرقم 1 هو الأول هو احتمال 1 من 10، لأنه كما ذكرنا كل رقم قد يكون له الحظ في أن يكون هو المسحوب، ولكن المثل يتعقد بشدة أكثر عندما نريد أن نسحب رقمين متتابعين فإن احتمال أن يكون الرقم 1 ثم يتبعه الرقم 2 هو احتمال 1 ضد 100، لأننا لو فكرنا كيف سيتم الأمر فإن احتمال رقم 1، ثم نتبعه الأرقام الباقية بشكل غير محدد مثل 1 يتلوه 7، أو 1 يتلوه 3 حتى يكتمل نصاب عشر مرات، ثم بقية الأرقام بالطريقة نفسها فيكون المجموع مائة مرة، وهو احتمال أن نسحب رقمين متتاليين ويكون الرقم الأول 1 والثاني 2، ثم ينعقد المثل أكثر عندما نريد أن نسحب ثلاثة أرقام متتالية، بحيث تخرج الأرقام 1، 2، 3 متتابعة فيكون احتمال ذلك هو 1 ضد 1000. وهكذا نتدرج في التعقيد والصعوبة، حتى نصل إلى حد عجيب، وهو إذا أردنا أن نسحب الأرقام العشرة مرتبة بعضها تلو بعض، بحيث تخرج الأرقام من 1 إلى 10 متتابعة، فإن احتمال أن تخرج الأرقام مرتبة بعضها تلو بعض بشكل متدرج من (1 إلى 10) هو مرة واحدة، قد تكون المرة الأولى هي التي ستكون المطلوبة، ولكننا لا ننتظر معجزة لأن الطبيعة شريفة غير مخادعة، ولأن احتمال 10 مليارات هو الذي يرد إلى الذهن قبل المرة الواحدة. وهذا مثل بسيط جدا وهو سحب أرقام، وسننتقل إلى ضرب أمثلة معقدة أخرى بحيث إننا سنصل إلى أن نعطي للمصادفة الصفر وهي الاستحالة وستأتي معنا!
والآن إلى مثل آخر وهو من عالم الأدوية والصيدلة، لنفرض أن لدينا صيدلية مليئة بأنواع مختلفة من المعاجين والأحماض والأسس والمراهم المنوعة والأدوية العديدة، ثم فجأة حدث اهتزاز أرضي، بحيث إن هذه الرفوف التي تحمل هذه الأدوية والمعاجين طرحت كل ما عليها وسالت الأدوية على الأرض واختلطت ببعضها وامتزجت المراهم والمعاجين والمساحيق والسوائل، ولما مضت الهزة الأرضية رجعنا إلى هذه الصيدلية، فإذا بنا أمام خليط غير متجانس من الأدوية، إن هذا الفرض هو الأقرب إلى المعقول، ولكن كيف الحال لو وجدنا أن هذا الخليط قد حقق دواء جديدا ليس في البال؟ بالطبع إن هذا مستغرب جدا لأن تركيب الدواء يحتاج إلى نسب معينة محددة وإلى تفاعلات معينة محددة، ولكن مع ذلك قد يصدق، ولكن كيف الحال لو أن اختلاط هذه الأدوية والمساحيق والسوائل والمراهم قد أوجدت دواء جديدا فذا يعالج مرضا مستعصيا على الأطباء حتى الآن، كما في الصدفية أو الصلع، وهما مرضان جلديان غير مميتين أو معديين (من العدوى)، أو يشفي أمراضا مخيفة كالسل والسرطان هذا في عالم المستحيل، لأن يكون الدواء بنسبة معينة وبكيفية معينة، ليشفي مرضا مخيفا له حساب احتمالات فوق التصور.
بل كيف لو أن هذا المزيج ركب خلية أو كائنا حيا، سواء أكان نباتا أم حيوانا، بالطبع إن هذا لا يدخل ولا يندرج في البحث أصلا، لأن إمكانيات المصادفة تقف عند هذه العتبة وهي انبثاق الحياة.
ثمة مثل آخر يلقي نورا في هذا البحث وهو مثل المطبعة. لو فرضنا أنه لدينا مطبعة وفيها نصف مليون حرف، ثم حدثت هزة أرضية ألقت الحروف بعضها فوق بعض حتى اختلطت إلى حد كبير وتراكمت فوق الأرض، ثم عدنا بعد ذلك إلى المطبعة بعد أن انتهت الهزة الأرضية لنرى خليطا غير متجانس من الحروف والكلمات، إن هذا هو الأقرب إلى المعقول، ولكن كيف الحال إذا رأينا جملة أو جملتين مفيدتين فيهما معنى جميل أو مثل عميق أو بيت من الشعر؟ بالطبع إن هذا بعيد جدا، وحتى لو حدث فسوف يثير دهشة واستغرابا عميقين عند من يرى هذا الشيء، وبالطبع إن هذا يعود إلى قانون الاحتمالات وهو هنا تزاحم الحروف حتى تشكل الكلمات، ولقد مر معنا أن سحب عشرة أرقام متتالية واحتمال خروجها مرتبة بعضها خلف بعض بالترتيب هو احتمال 1 ضد 10 مليارات، ولكن هنا المثل معقد جدا فهو ليس تزاحم عشرة أرقام، بل 500 ألف حرف. فالمثل يبلغ حدا من التعقيد، بحيث إن قانون الاحتمالات يصل إلى درجة المستحيل في ما إذا رجعنا إلى المطبعة لنجد قصيدة مؤلفة من ألف بيت من الشعر الموزون الجميل ذي المعنى العميق والوزن المتناسق، ولا يوجد فيها أي خلل لغوي. بالطبع إن هذا في عالم المستحيل، لأنه في عالم الرياضيات – وهو عالم دقيق – توجد حسابات دقيقة محددة، ومعلوم فيها أن أي عدد أو زاوية أو رقم تناهى في الصفر فإنه يصل إلى الصفر، وهو يعتمد القانون المعروف EMBED Equation.3 ( EMBED Equation.3 أي لا نهاية).
وهنا أمامنا في قانون الاحتمالات إمكانية واحتمال حدوث هذا الشيء يبلغ رقما لا يمكن تصوره، بحيث إنه يملأ من الأصفار صفحات، وبحيث إنه لا يقرأ بشكل علمي، أي يصل إلى اللانهاية، وبالتالي فهو في عالم المستحيل، أي يستحيل حدوثه. وهكذا يمكن نسف فكرة المصادفة بشكل جذري ونهائي حتى في عالم المادة قبل عالم الأحياء، الذي وقفت عنده فكرة المصادفة.
تركيبات خلايا الكائنات
هناك أمثلة أخرى متعددة في هذا الباب، ولكننا سنختم الأمثلة بمثل أخير قام به عالم رياضي سويسري هو (تشارلز يوجين جاي) على ذرة واحدة من العضويات، والتي يمكن أن تشترك في تركيب خلية واحدة من خلايا الكائنات التي تعمر هذا الوجود. ومع أن الوزن الذري لأبسط الأحيات هو 34.500 وهو آح البيض، ومع ذلك قام بتبسيط أول فاعتبر الذرات 2000 ذرة. وقام بتبسيط آخر فاعتبر أن الذرات نوعان فقط، بينما هي في الحالة العادية أربع جواهر على الأقل، وهي الفحم والهيدروجين والأكسجين والآزوت، بالإضافة إلى الكبريت والنحاس والفوسفور وغيرها من العناصر. وقام بتبسيط ثالث وهو اعتبار الوزن الذري 10 وسطيا، مع أن الفحم 12 والأكسجين 16، فكانت نتيجة الحسابات التي وصل إليها هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، حيث إن احتمال حدوث هذه الذرة يحتاج إلى ثلاثة أشياء. أولا: الاحتمال النظري لحدوث هذه الذرة، وثانيا: المادة وحجمها التي بإمكانها أن تعين رقم الاحتمال، وثالثا: الزمن الذي تحتاج إليه نظرية الاحتمالات، حتى يمكن تشكيل هذه الذرة الواحدة فقط. فكان احتمال المصادفة تقريبا 2 × 10 3210، أي مسبوق بـ321 صفرا إلى يمين الرقم!
وأما الحجم من المادة الذي نحتاج إليه حتى تتحقق مثل هذه المصادفة، فهو بحجم كرة ضخمة يحتاج الضوء لكي يقطع قطرها إلى 16410 سنوات، أي رقم واحد أمامه 164 صفرا، ونتيجة قراءة هذا الرقم يكون بالسنين الضوئية وهو ما يعادل المسافة التي لو سار الضوء سنة زمنية كاملة يستطيع أن يقطعها، وهي ما تصل إلى رقم ستة ملايين مليون ميل، أي 6 × 10 12 ميل، حيث إن الضوء يقطع في الثانية الواحدة 300 ألف كيلومتر، أو 186 ألف ميل، وهو ما يقطع في الدقيقة الواحدة 11 مليون ميل و160 ألف ميل، أو كما ذكرنا في السنة الواحدة 6 ملايين ميل على وجه التقريب، حيث وصلنا إلى هذا الرقم بضربه عدة مرات حتى نصل إلى رقم السنة، فهذه الكرة المادية التي نحتاج إليها لحدوث احتمال تكون ذرة بسيطة مكونة من ألفين من الذرات، وهذا الرقم يبلغ في علم الفلك أكبر من الكون الذي تخيله أنشتاين بسكستيليون سكستيليون سكستيلون مرة (تشارلز يوجين جاي). وذات نوعين فقط من الجواهر وذات وزن ذري وسطيا يبلغ 10 (كما ذكرنا ثلاثة تبسيطات لهذه الذرة الوحيدة) هي ذات قطر يبلغ بالسنين الضوئية 16410 سنوات.
هناك فرق بين خلق الشيء وترتيب الشيء أو تركيبه، حيث إن فكرة المصادفة لا يمكننا أن ندخلها لأن الوجود لا يحكمه قانون المصادفة بحال من الأحوال، وأما تركيب الأشياء فقد يبقى موضع بحث