شوف تشوف

سياسيةفسحة الصيف

حسن البنا والإخوان وحركات الإسلام السياسي

كتاب «معالم في الطريق» وكتاب «التفكير» للنبهاني نموذجا

بقلم: خالص جلبي

 

الإخوان في مصر اليوم ليسوا عصابة وفئة وتنظيما وحزبا؛ بل شجرة باسقة مستحيل اقتلاعها؛ فليعلم الجميع هذه الحقيقة والتعامل معها على أساس ذلك، حتى ولو كانت شجرة خبيثة. أما من سيحكم عليها بالفناء، أو البقاء فهو قانون القرآن عن الزبد وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.

في عام 1928 أنشأ شاب في العشرينات من عمره، يعمل مدرسا اسمه «حسن البنا» تنظيما بسيطا من ستة أعضاء في مدينة الإسماعيلية بمصر. نحن الآن في عام 2022م وأول رئيس مصري مدني انتخب «مرسي»، وهو من الإخوان انتهى بالإعدام بدون إعدام.

 

هنا يرقد حسن البنا

في مجلة «دير شبيغل» الألمانية، تعرضت لتاريخ ولادة الرجل «البنا»، بعد مرور قرن على ذلك، ولم يكن ثمة شيء على قبره سوى جملة «هنا يرقد حسن البنا».

الرجل بالمناسبة أنهى حياته قتلا بعد مقتل النقراشي، رئيس الوزراء المصري، وبعد الحادثة المشهورة بالجيب «سيارة الجيب الحاملة لوثائق خطيرة»، كان ذلك في عام 1948 فقتل الرجل وهو في عمر الأربعين، وكان يمكن أن يتطور ويتبدل، كما يقول أخوه جمال البنا، رحمة الله على الاثنين.

الأهمية في هذا القول أن من يخترع جهازا يستطيع أن يطوره، خلاف الأتباع المتصلبين عند أقواله، وهذه هي إحدى مشاكل الفكر السلفي المتحنط. قارنوا هذه العقلية مع عمر الذي يوقف نصا قرآنيا بقوله: لا يوجد اليوم المؤلفة قلوبهم، أو إيقاف حد السرقة وتهديد المولى بأن يقطع يده بدل العبد، وذلك عام المجاعة؛ لأن الرجل كان يفهم روح النصوص. أو الاختلاف مع جل الصحابة حول تقسيم أراضي سواد العراق، أو وضع راتب لذمي من بيت مال المسلمين.

الإخوان المسلمون اليوم جماعة تعد بالملايين، شجرة هائلة يصعب اقتلاعها إن لم يكن مستحيلا، بل إن كل إعدام أو حكم بالإعدام يعمل مثل تقليم الشجرة؛ فتزداد الجماعة نموا وقوة وكسبا للأتباع. تذكروا حملات الإعدام بدءا من عبد القادر عودة في حملة الستة، الذين انتهت حياتهم على المشانق عام 1954 في صراعهم مع عبد الناصر، حين اتهموا بتدبير حادثة المنشية لقتل الديكتاتور، وكان ذلك خطأ منهم، أو اختراقا، أو ترتيبا من نفس المخابرات الناصرية، كما فعل هتلر بتصفية الشيوعيين في حادثة حرق الرايخستاغ المشهورة عام 1938، أو حادثة حرق روما على يد نيرون واتهام المسيحيين بها، فانتهى هتلر إلى الانتحار ونيرون إلى القتل والإخوان إلى المشانق.

لقد امتدت هذه الجماعة من مصر إلى كل العالم العربي، بشكل مباشر وغير مباشر، سواء بجسمها الحركي، أو بأفكارها، مثلا حماس في غزة هي امتداد لفكر هذه الجماعة، وعلينا أن نعترف بأن تأثير الجماعة من خلال كتابها ومنظريها عم العالم أجمع، ولعل أي جماعة إسلامية في العالم العربي قد تأثرت بقليل أو كثير بفكر الجماعة، فهي تجمع السلفي والسياسي والصوفي في حزمة من التناقضات.

وحين تحدث «حسن البنا» مع مؤسس السعودية الملك عبد العزيز، عن فتح فرع للجماعة في المملكة، قال له بدبلوماسية كلنا إخوان ومسلمون يا حسن.

أذكر جيدا عام 1965، حين تم إعدام سيد قطب، صاحب كتابي «معالم في الطريق» و«في ظلال القرآن» الشهيرين، ولما وقعت الواقعة وتمت النكسة (1967) فسر البعض أنها انتقام السماء من عبد الناصر، ولكن السماء تحكم بالقسط، فالديكتاتورية التي أنشأها عبد الناصر ودولة المخابرات لم تكن لتواجه دولة بني صهيون، التي تعيش العصر ويكلؤها الغرب بكل دعم. ولنتذكر صراخ السادات في حرب عام 1973، حين قال: أنا لست في طريقي لمواجهة أمريكا. ذلك أن الولايات المتحدة وببركة كيسنجر (اليهودي الألماني) لم تخذل إسرائيل، حين ارتجت أمام تعاون سوريا ومصر في مهاجمة الدولة الصهيونية.

في المغرب أنشأ الملك الحسن الثاني (لجنة للمصالحة والإنصاف)، بعد سجن تازمامارت الشهير، عقب انقلاب الصخيرات ومؤامرة أوفقير، وهو أمر يمكن أن يتكرر في مصر فيتعاون الجميع على نهضة البلد، ولكن العسكر لا يرضون بأقل من النظام الشمولي الاستعبادي القمعي الدموي، ومعهم الأزهر ورئاسة المؤسسة الدينية القبطية في قسم منها، وحين أقرأ لأخ فاضل أن جماعة الإخوان المسلمين كانت إرهابية منذ نشأتها، أشعر أنه ظلم للتاريخ.

 

إنصافا للتاريخ

لست بصدد إعلان نفسي محاميا للدفاع عنها ولكن إنصافا للتاريخ، والجماعات مثل الكائنات تتغير مع الوقت؛ فتولد ضعفا، ثم تنقلب إلى القوة وفي النهاية ضعفا وشيبة، وتنظيم الإخوان لا يشذ عن ذلك، فقد تغير، وهو في صراعه مع العسكر حتى اليوم لم يتورط في المواجهة المسلحة، كما هو الحال في سوريا.

أتذكر جيدا حين اجتمعت بـ«فتحي رضوان» في القاهرة، فحدثني عن (حسن البنا) وماذا كان يخطط؛ فالرجل فكر في تكوين تنظيم مسلح لقتال البريطانيين في قناة السويس، ثم فكر في قتال الصهاينة في فلسطين (1948)، وشارك الإخوان في عمليات القتال هناك. هذه شهادة يجب أن نضعها للتاريخ.

قال لي «فتحي رضوان»، المحامي المصري المشهور، إن حسن البنا أدرك مغبة إنشاء تنظيم عسكري سري مسلح للجماعة، وحين كان يطلب من «السندي»، رئيس التنظيم، أن يقابله، كان يترفع عن ذلك، فأصبح البنا مثل من قال: «سمن كلبك يأكلك»، وهو مرض كل الأحزاب التي تنشأ لها أذرع عسكرية، تذكروا تروتسكي ولينين، تشي غيفارا وكاسترو، روهم وهتلر، الأسد والبيطار، عفلق وصدام، الترابي والنميري، والأمثلة مكررة لا تنتهي. وبالتالي فكل تنظيم مدني لا يبني قاعدة نضاله على الكفاح السلمي، نهايته مثل نكاح العنكبوت التي تلتهم الذكر ليلة العرس.

قال لي فتحي رضوان: لما وصل البنا إلى هذه القناعة، قال سوف أسحب يدي من السياسة وأحول عمل الإخوان إلى حديقة للتربية الروحية، ومن هذا البستان فليخرج رجال للسياسة ولكن نظيفون. ربما هذا ما فعله النورسي في تركيا، وجماعة الدعوة والتبليغ في الهند.

أين المشكلة إذن مع تنظيم الإخوان؟ هم أرادوا بناء خلافة إسلامية (عفوا خرافة إسلامية) وهو الخطأ القاتل؛ فليس مثل هذه الشعارات بريقا ومسخا.

هذه داعش نموذج صارخ بين أيدينا، في الوقت الراهن، في إعلان الخلافة والخليفة.

حتى لو نجح الإخوان في الاستيلاء على مقاليد السلطة بثورة، أو بانقلاب؛ فالنتيجة هي قريبا من تجربة إيران، التي وقعت الاتفاق النووي عن يد وهي صاغرة، والقصة مضحكة، لأنها تدور حول أصنام لا تضر ولا تنفع؛ عفوا الصنم النووي كما أسميه.

كل المشكلة هي في الفكر الإخواني الذي يمثل بالنسبة لفكر (حزب التحرير) والسلفية والصوفية؛ فكرا متقدما نسبيا، يهدف إلى مزج السياسة بملح الدين، ولكننا نعلم علم اليقين، أن مزيدا من الملح في الطعام يجعله غير مستساغ.

الإخوان أصبحوا شجرة لا يمكن القضاء عليها، والأفضل لها أي لنفس الجماعة كما كتبت في كتابي (النقد الذاتي ـ ضرورة النقد الذاتي لحركات الإسلامية) تغيير الكود الوراثي في البنية الذهنية، وأنا شخصيا كتبت الكثير في هذا، فلا يمكن الطيران للمستقبل بدون جناحين من العلم والسلم. بمعنى أن على الإخوان بناء الروح العلمية بين صفوف أتباعهم، واتباع النهج السلمي في التغيير الاجتماعي، كما أن على القوى الأخرى في المجتمع التعامل معهم كما يحدث في إسرائيل من التعامل مع القوى الدينية المتطرفة، والإخوان مع الزمن لن يخرجوا عن هذا القانون؛ فيتطوروا كما يحدث لكل الكائنات.

في قناعتي أن إعدام مرسي فرخ آخرين أدهى وأمر من مرسي، تذكروا إعدام عصمت أينونو في تركيا، وكيف فرخ تورغوت وأرباكان وأردوغان، وسوف تتعثر القيادة السياسية أمام امتداد الإخوان، حتى تعترف بهم وتتعامل معهم. وأهم شيء على الإطلاق في الوقت الراهن هو التركيز على جانبين؛ التعليم والقضاء على الفساد، كما فعل «لي كوان يو» من سنغافورة؛ فانقلب البلد بنعمة من الله وفضل، من بلد غارق في المستنقعات والبعوض وتناحر الأقليات، إلى بلد من العالم الأول، بصحة وتعليم وتناغم وانسجام ومصارف ومؤسسات طبية وجامعات تضخ بالعلم والمبدعين.

أعرف أن كلماتي هذه سوف تزعج البعض، ولن يتفق معي فيها الكثير (من السياسيين)، ولكن من يفكر ويكتب أن يعبر عن قناعاته، ومن سيكذب أو يصدق هذه الأفكار هو الزمن.

 

الفخ السياسي

الإخوان وحزب التحرير مثل حماس وفتح، فأما الإخوان فيقرؤون بخشوع كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب. وأما حزب التحرير؛ فقد بعثوا من الرماد، مثل طائر الفينيق وهم يقرؤون للمقدسي تقي الدين النبهاني، الذي يقرر كفر ابن سينا وابن رشد في أفضل كتبه «التفكير»! وأتباعه اليوم أقرب للطرق الصوفية، الذين يتبركون بالشيخ وهم ليسوا الوحيدين، ونشاطهم يذكر بنشاط جماعة شهود يهوه، وعقيدتهم تقوم على الثنائية، مثل عقيدة زرادشت، أن الصراع ولو كان قطان في الشارع، فهو بين أمريكا وبريطانيا. وهي بالطبع ترهات عفا عليها الزمن، ولكن من قلد مات عنده الابتكار والتجديد، وهي مصيبة الكثير من الحركات والأحزاب في العالم الإسلامي الممتد.

ويبدو من تاريخ الحركات كما روت لي سيدة أن كل فكرة مهما بلغ من سخفها وتداعيها التف حولها عدد من الناس يزيدون أو ينقصون، بقدر نشاط أتباعها وإخلاصهم وحماسهم وغفلتهم، ويوم القيامة يأتي النبي وليس معه أحد.

ولو بقي عمل البنا تربويا اجتماعيا، كما روى لي «فتحي رضوان»، لترك أثرا أعظم وأبرك، كما فعلت جماعة الدعوة والتبليغ في الهند، ولكن الفخ السياسي كان أعظم.

وأخطر شيء دفع الجماعة إلى حافة الانتحار، كان خطوة تبني (العنف) وسيلة للتغيير الاجتماعي، فقضت على الجماعة ومؤسسها.

وظهر هذا واضحا في كتابات سيد قطب عن المواجهة المادية، فالجاهلية، حسب وجهة نظره، لها جناحان من فكر وقوة مادية، فيكون غباء وقلة حنكة أن تواجه القاعدة الإسلامية الجاهلية بالفكر، بدون القوة المادية من سلاح وعتاد.. حتى تكون المواجهة صحيحة، والنتيجة مضمونة، ولذا طرح «قطب» مفهوم القاعدة الصلبة الواعية، التي نسمعها في كل العالم اليوم «القاعدة»!

ومن أجل سد هذه الثغرة المادية؛ فقد أسس البنا «التنظيم الخاص»، وهو تنظيم مسلح سري، بقيادة شاب متهور «السندي»، ولكن الحصان العسكري جموح، وقصة الترابي في السودان شبيهة بهذا، بعد أن رماه الحصان العسكري الجموح من ظهره فوقع وترضرض، ولولا الجو القبلي العائلي في السودان لطار رأسه؛ فهو محظوظ.

وحاليا تطور الإخوان، ويتحدثون عن الديموقراطية والتعددية، ولكن ما لم تصلح بنية الفكر عندهم على نحو جذري؛ فلن تزيد الأمور إلى سوءا، ولو صار الأمر إليهم فيجب على المرء حزم حقائبه، فإن البعث والإخوان وجهان لعملة واحدة.

وهذه البنية يشترك فيها الإخوان وحزب التحرير والفكر الإسلامي والقومي والبعثي والشيوعي والناصري والعلماني عموما، وهي ظاهرة «حزبية» وضعتها أنا تحت منظار السبر والتشريح النقدي في كتابي «في النقد الذاتي»، لمن أحب الاطلاع.

ومن وصف هذه الظاهرة بالصحوة فهو واهم، لأننا مقبلون على فترة لن تكون صحوة، بل غيبوبة، والفكر الإسلامي حتى اليوم مفصول عن المعاصرة، وما زال يعيش في رحم الآباء. والقرآن نصحنا أن نتخلى عن فكر الآباء؛ فقال: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة».

وهذا هو سبب تعضل ولادة الجنين الإسلامي، فهو مثل السيدة التي تعاني من الإجهاضات المتكررة، فتطرح كل حين بعد كل حمل، ولم يولد جنين مكتمل حتى هذه الأيام.. ومن يزور مدينة المحمودية، حيث ولد البنا قبل أكثر من قرن، يصادف بقايا بيوت مهدمة قديمة، وفي مقبرة (البساتين) يطالع قبرا لا يختلف كثيرا عن القبور المجاورة، باستثناء عبارة كتب عليها: هنا مثوى الشهيد حسن البنا. فسبحان الذي قهر عباده بالموت.

 نافذة:

أخطر شيء دفع الجماعة إلى حافة الانتحار كان خطوة تبني (العنف) وسيلة للتغيير الاجتماعي فقضت على الجماعة ومؤسسها

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى