شوف تشوف

الرأي

حرية المعتقد

بقلم: خالص جلبي

في 16 فبراير من عام 1600م تم حرق (جيوردانو برونو) في روما، بتهمة الهرطقة على يد الكنيسة ومجمع الكرادلة. التهمة كانت حول أفكاره التي دونها في كتابه «العلة والغاية» بأن الكون لا نهائي؛ فهل يعقل أن يأتي المسيح لكوكب تافه بفكرة الخلاص؟
ـ مثل ذلك حصل للتشيكي هوس فأحرق، والطبيب سرفيتيوس، مكتشف الدورة الدموية، الذي أحرق على يد المصلح الديني كالفن.
ـ وحسب ما ذكر فيليب مانسل في كتابه «القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم»، ص 88: «كان معظم الأوربيين يؤمنون بأن الدولة لا يمكن أن تزدهر إلا إذا فرضت الوحدة الدينية على رعاياها، وإبان القرن 16 كان الزنادقة يحرقون أحياء في لندن وبرلين، ويذبحون بباريس، ويطردون من فيينا، وفي العام 1685 طرد لويس 14 الهوجنوت جميعا من فرنسا، وحتى العام 1700 كانت حشود فرحة على رأسهم ملوك إسبانيا وملكاتها يشاهدون الزنادقة وهم يحرقون أحياء في الساحة الكبرى بمدريد».
ـ وفي هولندا في القرن 17 تم طعن الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا في عنقه على يد متعصب، وأصدر السنهدرين وهو مجمع العلماء الأعلى عند اليهود قرارا بلعن سبينوزا وعدم الاقتراب منه أربع أذرع.
ـ وفي قرطبة تم طرد ابن رشد وابنه من المسجد الجامع، وأحرقت كتبه، وتمكن الفقهاء من إقناع السلطان بنفيه إلى قرية الليسانة يقضي فيها بقية عمره وقد تجاوز السبعين. وفي دمشق ضرب ابن تيمية وهو في المنبر فطارت عمامته وسيق للتعزير، كما جلد ابن حنبل وسمم أبو حنيفة النعمان.
ـ وفي الهند تم اغتيال داعية السلام غاندي على يد هندوسي متعصب، كما يقتل فيروس تافه أعظم الكائنات.
ـ وفي الصين وبأمر العاهل الأعظم تم دفن علماء كونفوشيوسيون في التراب أحياء.
ـ وفي عصرنا شنق السوداني (محمود طه) بتهمة الردة على يد النميري الانقلابي، الذي كان يطبق الشريعة الإسلامية عليه. كما تم اغتيال المسيحي مارتن لوثر كينغ ومالكولم إكس المسلم.
من خلال الأمثلة التي أوردناها من أوساط شتى من الوسط اليهودي والمسيحي والمسلم والبوذي والكونفوشيوسي، ابتداء من حادثة شرب السم عند سقراط، ونفي أرسطو، مرورا بالعصور المظلمة التي نسميها نحن مظلمة، وانتهاء بالمعاصرة نحن شهود (ظاهرة) تتكرر في كل ثقافة. بالطبع لا تسأل عن الفاشية والنازية والأصوليات الحالية والبعثية العبثية والشيوعية، التي كتب عنها المخضرم ستيفان كورتوا في «الكتاب الأسود» ليقرر قتل 200 مليون إنسان على يد الرفاق.
جاء في سورة الذاريات (الآية 52 ـ 53) «كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون». يتساءل القرآن هل هي وصية تنقل من جيل إلى جيل بتكذيب واضطهاد المفكرين؟
في مكان ثان يرفع القرآن الدرجة، حين يقول «وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب؟» (سورة غافر الآية: 5).
وتتعدد طرق الاضطهاد كما يحكيها القرآن بين السجن والنفي والقتل. وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك (السجن) أو يقتلوك أو يخرجوك (النفي) ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (الأنفال ـ 30).
ـ وتأتي الذروة باضطهاد المسيحيين بالحرق الجماعي كما في سورة البروج، ليعفي القرآن سبعة شباب من هذا المصير فيناموا في كهف بارد ثلاثة قرون، في قصة خلدتها سورة الكهف، التي يقرأها المسلمون كل جمعة ولا يتفطنون إلى المعنى العميق فيها.
2ـ والسؤال لماذا تتكرر هذه الظاهرة؟ وما السبب خلفها؟
تنفعنا في الإجابة عن هذه الإشكالية نماذج من عالم الخلايا والحيوان، وصولا إلى قوانين المجتمع. في العالم العضوي حين يتعرض مريض لفشل كلوي ويحتاج إلى زرع كلية، فإن أعظم تحدي يواجهه الأطباء هو في خرق قانون البدن الذي يرفض أي جسم أجنبي يدخله، وهي آلية أساسية لحماية البدن من جرثوم وفيروس. هنا يتبع الجسم قوانينه الأساسية فيرفض الكلية ولو كان فيها الخير؛ فيعمد الأطباء إلى ترويض الجهاز المناعي بتخفيض قوته إلى الدرجة التي يقاوم ولا يرفض.
في عالم الحيوان المسألة مخيفة، حين يبصر الدجاج دجاجة مجروحة تنزف، تقبل عليها الجموع نقرا في مكان النزف حتى الموت. الشيء نفسه رأيته أنا في عالم الأرانب.
كذلك يسري قانون الرفض في المجتمع، في الامتناع عن إدخال أي فكرة على الجسد الاجتماعي، ولو كانت جيدة. حرصا منه على التوازن وتماسك المجتمع ومتابعة حياته كما كان. وكما كان عقاب الشاذ في الدجاج القتل، فهو أيضا عند البشر حرب لا هوادة فيها بما فيها القتل. وهو ما حصل لكثير من الدعاة والرسل والمفكرين والفلاسفة.

3 السؤال مجددا لماذا لا يحافظ المجتمع على تراتبيته ودورته الأبدية كما في عالم النحل والنمل والصراصير بل والنبات؟
المجتمعات البشرية تشذ عن قانون الدورة المغلقة عند الحشرات والحيوانات بنظام الطفرة، أي التغير. هنا بين الثبات والتغير والتقدم نحو الأفضل هو ما يفعله البشر. وبين الخوف من اضطراب النسق والاستمرارية الروتينية، وبين الاهتزاز الجديد والتغير تبدأ المحنة ألوانا تصب على رؤوس الذين يصرحون بأفكار التغيير. وحين نرى الشيعة وهم لأنفسهم بالسلاسل يضربون، أو المسيحيون وهم يحملون الصليب إلى جبل الجلجثة مقلدين يسوع الناصري، فهي كلها مؤشرات على عذابات أصحاب الأفكار الجديدة.
هكذا يحتدم الصراع الإنساني بين الجمود والتطور، لتنتصر الفكرة الجديدة ولو بعد ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا. ليتقدم المجتمع إلى خطوة أكثر تقدمية، هذا هو السر في حركة التطور التي يحققها الجنس البشري بلهيب المحنة فيصفى معدنه من الشوائب.
يشير القرآن إلى أن هذا قانون لا مهرب منه لعدة اعتبارات، كشف الكاذب والخبيث من الصادق والملهم، التدريب القاسي على تحمل المسؤولية للقيادة المستقبلية. وتخضع المحنة في العادة لأربع زوايا أن لا بد منها، وأنها ضرورة للنضج، وأن زيادتها ساحقة ونقصها غير محرض، وأخيرا مؤشر المحنة طبيعة الأفكار الجديدة المتبلورة.
إذن مبدأ الطفرة في علم الخلايا يحقق التطور كما اهتدى إليه لامارك وداروين في الخلائق؛ فتتغير الخلائق إلى الأفضل وتتنوع، وكذلك الحال في الأفكار في المجتمع، حين يطرحها نبي أو مفكر فيحدث النقلة النوعية في المجتمع.
الأصل إذن أن المجتمع يحافظ على رتابة حركاته اليومية فيزرع ويأكل وينام ويتناسل ويبني ويعمر، كله ضمن منظومة من القيم تشكل إطاره الثقافي الجامد، وفجأة يبدأ مجنون بالصياح أن المجتمع في ضلال. ويصرح علنا أن هناك مجموعة من السلوكيات والأفكار هي الخطأ بعينه وذاته يجب تغييرها. ويلك ماذا تقول؟ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب.
فكرة المساواة، الحرية، وضع المرأة، الرق، الحرب، الكرامة والعقل والتفكير.
مقابل المجنون وأتباعه من المجانين يلتحم بشدة ثنائي المواجهة، الذي يضم الجبت الديني والطاغوت السياسي، وتبدأ المفرمة في فرم لحم المعارضة.
الطاغوت يمسك رقاب الناس بالقوة والجواسيس والمال، والكهنوت يمنح الطاغوت الشرعية مقابل المال والنفوذ.
ليس من نموذج واضح لهذه الفكرة مثل قصة فرعون وموسى في القرآن المكررة في أكثر من ثلاثين موضعا موسعا، وتكرار اسم فرعون أكثر من مائة مرة.

4 ـ ولكن هل هذه دورة رتيبة مملة تكرر نفسها أم ثمة تصور مختلف؟
تحدث نيتشه عن شيء اسمه العود الأبدي، وتكلم القرآن عن شيء اسمه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه إنه ليس بدعا من الرسل.
وفي سورة إبراهيم يشتد الجدل بين الأنبياء وأقوامهم، أولئك يقولون البشر ليسوا آلهة، فهم يخطئون ويجب أن لا يعبدهم الناس؛ بل يجب تحكيم القانون في المجتمع؛ فلا يتضخم الأفراد فيمزقوا الشبكة الاجتماعية، وليس ثمة امتيازات إلا مقابل الواجبات. وبين احتكار السلطة والنفوذ يتأجج الصراع، لينفجر على شكل ثورات أو حركات إصلاحية عميقة كما في إصلاحات صولون؛ فيتغير المجتمع درجة، ليعود إلى الركود من جديد، لتظهر على السطح أفكار جديدة، لتنفجر الأوضاع مجددا وتتحرك باتجاه تحسينات، فكمون فحركة فانفجار فركود وهكذا.

5 ـ أخيرا: وقود التغيير دوما هو فكرة تحرك الوسط الراكد بحرية التعبير: العبرة ليست في حرية المعتقد، بل الإعلان عنه بدون خوف، ما سماها القرآن الرسالة وهي ظاهرة مكررة عبر التاريخ.
التعبير عن أمرين إما غلط يجب تصحيحه، والإعلان عن ذلك، وإما تذكير بانحراف عن شيء صحيح يجب تقويمه، في حركتين.
إما وضع غير صحيح غلط يجب أن يقوم، أو انحراف عن شيء صحيح تجب العودة له. هنا يأتي دور المفكرين في إطلاق الأفكار الجديدة الصادمة، وهم الأنبياء عرفهم الناس أو لا. والقرآن ينص على هذا حين يقول: «ومنهم من لم نقصص عليك».
ولكن أصحاب الامتيازات ومعهم الكهنوت لا يسلمون لهذا؛ فيكونون ضد قوى التغيير، ولأنهم يدعون أنهم الممثل الشرعي الوحيد عن الله في الأرض فهم يطلقون على أولئك المتمردين كل الأسلحة فيسمونهم كفارا، هراطقة، زنادقة. وليس الأمر عند كلمات، بل تسليط العذاب عليهم في صور لا نهائية.
أصحاب الأفكار الجديدة الصادقة يعيشون لأفكارهم حتى النهاية إلى حافة المصلبة والمشنقة، وحين يقتلون أو يصلبون يتحولون إلى شهداء يتعلق بهم الناس أكثر فأكثر، كما هو الحال مع عيسى بن مريم والحسين بن فاطمة.
إذا قتلوا تحولوا إلى نجوم يمشي الناس على هداها، سواء كان سبارتاكوس أو جيوردانو برونو، الذي وضعوا له تمثالا في مكان حرقه وتتحرك المظاهرات في ذكراه. ولكن يحصل العجيب والمتناقض، حين يتحول المناضلون من جديد إلى مستبدين. وحسب ديورانت، فإن المسيحيين نكلوا بخصومهم بأكثر ما فعلت روما بهم. وهكذا يعود الركود من جديد والشخير العام لينهض من الرماد متمردون جدد، عفوا كفار جدد، بكلمة أدق يسميهم الكهنوت القديم الكفار وهم من أنقى المؤمنين.
يتحول المناضلون مع الوقت إلى قوى رجعية مجرمة توقف التقدم باسم الدين والديان، وأنهم الممثل الوحيد لله على الأرض، وأنه يجب قتل المرتدين، ولا غرابة فنفس الرسول (ص) اتهم بأنه صابئ مرتد يجب قتله، وهي التهمة نفسها التي وجهت إلى يسوع المسيح، وليسا الوحيدين في تاريخ الثوار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى