شوف تشوف

الرأي

حرية الصحافة: جدل الانعتاق والارتهان

صبحي حديدي
في سنة 1991 أوصت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، بأن يكون تاريخ 3 ماي من كل عام يوما عالميا لحرية الصحافة؛ الأمر الذي تبنته الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في سنة 1993، تحت شعار «الصحافة من دون خوف أو محاباة». وهذه السنة تحديدا شددت المنظمة على أهمية الإعلام الحر في تزويد الجمهور بمعلومات مستقلة وموثوقة في وقت الأزمات بصفة خاصة، ودعت إلى حوار «رفيع المستوى»، سيتناول مسألة حرية الصحافة وكيفية التصدي للتضليل الإعلامي في ظل تفشي جائحة «كوفيد- 19».
والمرء إذ يتوقف عند هذا اليوم بصفة خاصة، فذلك لأن أهميته تتجاوز الحرية المهنية للصحافة والصحافيين، فتشمل انعتاق تناقل المعلومة وصدقها ومصداقيتها، وكذلك وسائل إنتاجها وحسن إيصالها إلى الجمهور العريض؛ فضلا، بالطبع، عن علاقة هذا كله بالسلطات والتوظيف السياسي والتشويه والرقابة. وخير لامرئ، مهتم بهذا اليوم من زوايا الحرية والارتهان، تحيدا، أن يضع جانبا فظائع انتهاكات حرية الصحافة في أنظمة الاستبداد والفساد المعروفة، فالحال في هذا اليوم مثل سواه: تحصيل حاصل، لا جديد يطرأ عليه إلا إذا تفوق الطارئ على سوابقه في السوء والانحطاط. الأجدى، استطرادا، أن يتبصر المرء في واقع حريات الصحافة في البلدان التي تكفل دساتيرها هذه الحرية، نصا وتطبيقا، وليس على الورق فقط على قياس دستور آل الأسد في سوريا؛ ولكن الصحافة فيها لا تتمتع بمقادير التحرر التي ينتظرها المرء أو يسوقها المنطق العام، لأسباب شتى يضيق المقام عن استعراضها هنا.
نقرأ، في مثال أول، تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عن هذا اليوم، في أنه فرصة «للتشديد على الدور النقدي الذي تلعبه وسائل الإعلام المستقلة في تسهيل التبادل المفتوح للمعلومات والأفكار ذات الحيوية الكبرى للمجتمعات الحرة، والمزدهرة، والآمنة، والديمقراطية». لكنه أول الأبواق التي تبرر جلافة رئيسه دونالد ترامب في التعامل مع الصحافيين، وفزاعة «الأخبار الزائفة» التي يرفعها في وجه كل صحافي، وصحيفة أو وسيلة إعلام مقروءة أو مسموعة أو مرئية، إذا كانت لا تسير في ركاب إدارته، ولا تبصم بلا تردد على أفكاره وسياساته. ليس هذا فحسب، بل إن بومبيو تعامل مع صحافة بلده بمستوى من الصفاقة بلغ حد قطع الحوار مع الإذاعة الأبرز في الولايات المتحدة، لأن المذيعة أحرجته بأسئلة عن أوكرانيا وفضائح ترامب؛ ثم لجأ بعدها إلى إنزال صحافية من طائرة وزارة الخارجية المتجهة إلى كازاخستان، لأنها تعمل في الإذاعة ذاتها، معتبرا أنه إنما يمارس… حرية الصحافة!
مثال آخر، مختلف من حيث نوعيته وإن كان يتابع جدل امتلاك الصحافة هوامش حرية كافية حين تتاح، بهذه الدرجة أو تلك؛ هو حال وسائل الإعلام السورية المعارضة، المقروءة والمسموعة والمرئية، التي تكاثرت بعد انتفاضة 2011 في سوريا، وتُصنف اليوم تحت مسمى «الإعلام البديل». وهذه يتجاوز عددها الـ30، بين صحيفة وإذاعة وفضائية، تصدر عن أماكن مختلفة خارج سوريا وتبث إلى الأثير عموما، مع تركيز على الداخل السوري كما تقول؛ ويعمل فيها العشرات من الصحافيات والصحافيين، المحترفين منهم أو المستجدين الذين وفدوا إلى المهنة في منافي السوريين المختلفة. ورغم أن هذه المنابر تتمتع، مبدئيا، بحرية العمل والتعبير في ظل الأحكام القانونية السارية في بلدان الإنتاج والإصدار؛ ورغم الجهود الكبيرة، المخلصة والمتفانية، التي يبذلها العاملون في هذه المؤسسات؛ فإن الحصيلة، لجهة التفاعل مع المواطن السوري في الداخل، أو حتى في الخارج، تبدو للأسف عجفاء ولا ترتقي بما يكفي إلى المهام التي أناطتها بمشاريعها ومهامها ووظائفها.
أحد هذه المنابر، «عنب بلدي»، أجرى تحقيقا مفصلا حول واقع الحال في هذه المؤسسات الإعلامية، أكدت غالبية معطياته تلك الخلاصة المؤسفة حول الحصيلة: عن تأثير هذا الإعلام في «النزاع»، اعتبر الصحافيون المشاركون في الاستفتاء أنه كان سلبيا بنسبة 42 في المائة، وإيجابياً بـ23 في المائة، وغير مؤثر أبدا بـ33 في المائة؛ وحول التأثير في الرأي العام العالمي، قال 57,1 في المائة إنه لم يكن مؤثرا، مقابل 38 في المائة؛ وحول ما إذا كانت وسائل الإعلام هذه قد خففت «الاحتقان بين أطياف الشعب السوري»، قال 90,5 في المائة من المشاركين أنها لم تفعل؛ وأكثر من نصف المشاركين اعتبروا أنها لم تكسر الصور النمطية في المجتمع، ورأى 80 في المائة منهم أنها لم تنجح في التصدي لخطاب الكراهية على وجه التحديد. وفي استبيان لرأي الجمهور، حول التأثير العام لوسائل الإعلام هذه، أجاب 49 في المائة أنه كان سلبيا، و29 في المائة اعتبروه إيجابيا، بينما رأى 21 في المائة أنها لم تكن ذات تأثير إطلاقا.
ومع التحفظ على المنهجية العلمية في إجراء الاستبيان، فإن النتائج قاسية لا ريب، وهي تغفل الإيجابيات الكثيرة التي اقترنت بوسائل الإعلام البديلة هذه؛ والتي قد يكون في طليعتها تدريب وتأهيل الصحافي/ المواطن، ومنحه الحق والفرصــة في ممارسة حرية حُرم منها على مدار عمره. الأرجح، في الخلاصة، أن مطاحن التمويل المتصارعة، في الغرب والولايات المتحدة على وجه التحديد، قرأت وظائف هذا الإعــــلام البديل على غــــير، أو حتى على نقيض، آمال السوريين المنخرطين فيه، فاكترث الممول بجعجـــعة الأجندات خلف الصفحة والميكروفون والشاشة، أكثر بكثير من الطحـــن الذي يتوجب أن يستقبله المواطن السوري!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى