شوف تشوف

الرأي

حرق العلماء واضطهادهم

 

في الثالث من نونبر 1411م اعتقل المصلح الديني «جان هوس» التشيكي، وأُخضع لحفلة تحقيق جهنمية من أجل كتاباته، وأُدين في 6 يوليوز 1415م، بسبب ثلاثين جملة اعتبرت «هرطقة»، وحكم بأن يحرق «حيا» على النار ذات الوقود، ونفذ الحكم في يوم إصداره نفسه.

وفي 27 أكتوبر 1553م أدين الطبيب الإسباني «ميشيل سرفيتوس»، مكتشف الدورة الدموية الصغرى، بسبب قوله بالتوحيد وتعميد البالغين؛ فلا يعقل تلقين العقيدة لمن لا يعقل، وتكليف اللامسؤول بالمسؤولية، أو أن الرب انشطر إلى ثلاثة أجزاء بدون أن ينشطر؟ وكان خلف إصدار الحكم «كالفن»، المؤسس الرئيسي للبروتستانتية في سويسرا، ولم تشفع له دموعه وتوسلاته في تحويل الحكم إلى الشنق أو قطع الرأس؛ فالنار أطهر للبدن وأزكى للروح، فأُحرق حيا، ولم يهتز لكالفن رمش عين.

وفي 21 مارس 1556م بعد ثلاث سنوات من حريق سرفيتوس، كان المصلح الديني البريطاني «توماس كرامر» يشغل منصب «أسقف كانتربري»، أول مترجم للإنجيل إلى اللغة الإنجليزية يضبط على آرائه الخطيرة في الإصلاح الفكري، ويساق إلى المحرقة ليشوى على نار هادئة، وجمع غفير يتأمل زفرات الألم مع حشرجة الروح في تضاعيف الدخان المتصاعد.

وفي 19 فبراير عام 1600م، بعد 44 سنة من حرق كرامر مع فجر القرن السابع عشر، كان المصلح الديني «جيوردانو برونو» الإيطالي على موعد مع المصير نفسه، فأحرق على ألسنة اللهب المتصاعدة حيا عن عمر 52 سنة، بعد اعتقال مضن دام ثماني سنوات في الفاتيكان، والخضوع لكل أنواع التساؤلات، ليتم اصطياده برأيه الكوسمولوجي عن كون بدون حدود، ومجرات لا نهائية تتزاحم في الملأ العلوي: «الأرض ليست مركز العالم ولا الشمس، وفي ما وراء العالم الذي نراه عوالم أخرى إلى ما لانهاية، وربما كانت هناك كواكب كثيرة تسكنها كائنات حية ذكية، فهل مات المسيح من أجلهم كذلك؟».

هذا ما كان من الوسط المسيحي، في ما يخالف تعاليم المسيح عليه السلام.

لنحاول الآن أخذ عينات من أوساط مختلفة؛ ومثلا فعلينا القفز عميقا في التاريخ عند حواف القرن الرابع قبل الميلاد. وفي عام 399 قبل الميلاد تم تنفيذ حكم الإعدام في أثينا الديموقراطية بشيخ بلغ السبعين عاما، بتجرع قدح سم الشوكران. تم اتخاذ الحكم أمام هيئة محلفين مكونة من 501 عضو، وكانت التهمة التي أدين بها بغالبية 36 صوتا ليس لذنب ارتكبه، أو جريمة اقترفها؛ بل لأنه يفسد عقول الشباب بالآراء التي ينشرها. كان المدان الفيلسوف اليوناني (سقراط 470- 399 ق.م) أعظم فلتة عقلية أنتجها مجتمع أثينا؛ الذي تجرع السم ورفض محاولة الهرب.

ومع الثورة الفرنسية عام 1789م طار رأس أبو الكيمياء الحديثة «أنطوان لافوازييه» بنصل المقصلة التي اخترعها الدكتور جيلوتين، أيام الثورة الفرنسية، تخفيفا لعملية الذبح.

وسلم الروح «سبارتكوس» صلبا على عمود، ثائرا على روما عام 70 قبل الميلاد. وأنهى الإمام ابن تيمية أيامه الأخيرة في سجن القلعة بدمشق، وهو يكتب بالفحم على الجدران مثل المجانين، بعد أن حرم من القلم والقرطاس.

وقطع رأس النبي يحيى «يوحنا المعمدان» في جو عربدة، إرضاء للراقصة سالومي. ولا يشذ تاريخنا عن هذه القاعدة، فابن حنبل ضرب إلى حافة الموت. وأبو حنيفة مات مسموما. وابن جرير الطبري المؤرخ دفن بالليل سرا عام 310 هـ، بسبب رميه بالزندقة وهو الذي وصف الفقيه «الإسفراييني» كتابه «التفسير الكامل»، بأنه لو سافر رجل إلى الصين من أجله لما كان كثيرا.

ويسأل الحجاج عالما: ما اسمك؟ فيجيب: سعيد بن جبير. فيذبحه قائلا: بل أنت شقي بن كسير، في تصفية أموية لكل المادة الرمادية في المجتمع.

وفي يوم العيد يقف أحد الجلادين يخاطب الجمهور: أإنكم تضحون اليوم، وأنا سأضحي بالجعد بن درهم، ثم ينحره كالكبش الأملح.

ووصف ابن أبي أصيبعة «شهاب الدين السهروردي» بأنه «أوحد في العلوم الحكمية، وهو بارع في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة»، ولكن خصومه شنعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد، بعد أن ناظرهم في حلب فأفحمهم، فعملوا محضرا بكفره ورفعوه إلى السلطان «صلاح الدين الأيوبي»، وطلبوا منه استئصال الشر بقتله حتى لا ينفث إلحاده بكل بلد يحل فيه، فكان لهم ما أرادوا، فقتل سنة 587 هـ عن 36 عاما، وأخذ لقب «الشاب المقتول» في التاريخ.

وأما «سلطان العلماء» الشيخ «العز بن عبد السلام»
فقد أغرى به خصومه الملك «الأشرف» بن الملك العادل الأيوبي، أنه «زائغ العقيدة، منحرف عما صح من العقائد الدينية الصحيحة»، وأفتوا بأنه كافر، حلال الدم. ورسى مصيره بأن حكم السلطان عليه: «بألا يفتي ولا يجتمع بأحد، وبأن يلزم بيته = إقامة جبرية». وكان مصير الحلاج أن ضبطه الوزير المحقق بكلمة قالها القاضي: «يا حلال الدم»، فحكمه بالإعدام وهو يصيح فيهم: الله.. الله في دمي. فضرب ألف سوط وقطعت أطرافه وأحرق.

مغزى هذه القصص التي ترتجف منها المفاصل، أن المجتمع لا يتقدم إلا بالفكر على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع، وأن الجديد يعارض دوما، وأن النافع يثبت وأن التاريخ تقدمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى