حرب نظام الأسد ضد الملك الحسن الثاني بعيون «CIA»
أوراق منسية من كواليس قمم عربية واحتضان دمشق معارضي الملك
«عندما اختفى المهدي بن بركة في باريس، نهاية أكتوبر 1965، كان أصدقاؤه في دمشق، ينشرون مقالات منتظمة يوجهون فيها الاتهام إلى المغرب بالوقوف وراء اختفاء أشهر زعيم معارضة في العالم العربي. ولم تنته أجواء المحاكمة في باريس سنة 1966، حتى قرر السوريون إطلاق اسم المهدي بن بركة على واحد من أهم الشوارع في مدينة دمشق، ونشرت الصحف صوره في الذكرى الأولى لاختفائه، مضمنة مع عناوين مُسيئة للمغرب.
وقبل اندلاع قضية اختفاء المهدي بن بركة، كانت عائلة رفيقه، المعارض الفقيه البصري الذي كان قد غادر المغرب، قبل صدور حكم غيابي ضده بالإعدام، ضيفة على سوريا. حيث عرض النظام السوري وقتها، قبل وصول حافظ الأسد إلى السلطة بقرابة عشر سنوات، على الفقيه البصري الإقامة في دمشق، وخصص مسكنا لعائلته، وسمح له بولوج سوريا ولقاء رموزها السياسية.
ومع الأسد الذي وصل إلى السلطة في فبراير 1971، ازداد الوضع قتامة، وبدأت حرب أخرى ضد المغرب».
يونس جنوحي
ضابط أمريكي وثّق عمليات تمويل حافظ الأسد لمعارضي الحسن الثاني
لم يتفوق أي أمريكي آخر على «روبرت كابلان»، ضابط الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق في سنوات الستينيات والسبعينيات، في نقل التقارير السرية عن الأنظمة العربية والعلاقات بين المغرب والدول العربية، في تلك الفترة القاتمة من التاريخ.
عندما تقاعد هذا الضابط في تسعينيات القرن الماضي، من العمل الاستخباراتي، وثق لتجربته في كتاب مثير صدر وقتها بعنوان «The Arabists»، وصدر بعد ذلك بعناوين تجارية أخرى، تطرق فيها طوال صفحات إلى العلاقات المتوترة بين الأنظمة العربية، وكشف كيف خطط حافظ الأسد برفقة هواري بومدين والقذافي للإطاحة بالملك الراحل الحسن الثاني.
ورغم أن المؤشرات كلها، عند وصول الأسد إلى السلطة في فبراير 1971، كانت توحي بصلح بين المغرب وسوريا وطي صفحة تمويل البعثيين واستضافتهم لمعارضي النظام، وتوفير السلاح والتدريب لخلايا الفقيه البصري، إلا أن الانقلاب الحقيقي الذي قاده حافظ الأسد ليغير موقفه من المغرب ويصطف إلى جانب بومدين والقذافي، وكلاهما سبقاه إلى السلطة وإلى معاداة المغرب، لم يبدأ إلا بعد سنة 1973.
بل في عز الأزمة المغربية مع توالي انقلابين عسكريين ضد الملك الراحل الحسن الثاني، في يوليوز وغشت 1971 و1972، لزم الأسد الحياد، في وقت كان القذافي غير متردد في دعم الانقلابيين شأنه شأن بومدين، والسادات الذي لم يبادر إلى توضيح الموقف المصري مما وقع.
ومن بين النقاط التي أثارها «كابلان»، مسألة تمويل حافظ الأسد لتنظيم مسلح يقوده الفقيه البصري، الذي ذكره التقرير بالاسم، وقال إنه تلقى دعما مباشرا من سفارة سوريا في باريس، بقصد تمويل تحركات مغاربة أعضاء في التنظيم السري، أثناء الإعداد لما عرف لاحقا بثورة مارس 1973 المنسية.
حافظ الأسد كان على علم بتحركات الفقيه البصري، ولم يمنعه من لقاء بعض القيادات في سوريا، وظل النظام السوري عارفا بتفاصيل الإعداد للانقلاب، بل إن المخابرات السورية عرضت وساطة لتسهيل مرور المسلحين عبر الحدود الجزائرية، وإقناع هواري بومدين بتمويل التنظيم وتسهيل وصول السلاح إلى الحدود الشرقية المغربية، قبل إدخاله لقيادة الثورة «الموؤودة».
حافظ الأسد وقتها كان حديث عهد بالسلطة، ولم يفتح جبهة العداوة مع المغرب، إلا عندما أصبحت مصلحته الخاصة غير معزولة عن مصلحة كل من القذافي وبومدين في مواجهة صدام حسين. هذا الأخير الذي كانت علاقته بالأسد متذبذبة، بل وتدخل الملك الراحل الحسن الثاني أكثر من مرة لعقد الصلح بينهما.
حسب ما رواه الكاتب «روبرت د. كابلان» في كتابه «ذي أرابيست»، الذي يحكي فيه عقودا من العمل الاستخباراتي لصالح الـ«CIA» في دول المشرق العربي، حيث «استعرب» الأخير وسط الرؤساء والحكام العرب، واستطاع فهم العلاقات بين عدد من الدول وخصائص من بينها الترتيبات والمخططات للإطاحة بزعماء ودعم آخرين، فإن عمليات كثيرة جرت بشكل سري قادها زعماء عرب بأنفسهم للإطاحة بخصومهم والتجسس عليهم، وحاولوا إبقاءها بعيدة عن أعين الـ«CIA»، رغم أنهم كانوا يعرفون جيدا أن أمر حفظ أسرار من هذا النوع يبقى مستحيلا.
على طول الصفحات الثلاثمائة، كان الحكي مسترسلا واصفا ليل السفر على متن الطائرات التي تقطع الصحاري العربية في ساعات من التحليق المتواصل، لكي ينزل منها مسؤولو وكالة الاستخبارات المركزية، وكيفية كتابتهم للتقارير السرية التي لم يعد بعضها أو أغلبها كذلك.
يقول «كابلان» في كتابه إن بعض الزعماء العرب كانوا يبدون توجسا كبيرا من القذافي، خصوصا وأنه كان حديث عهد بالأعراف الدبلوماسية، ولم تكن لديه أي اعتبارات لرؤساء وملوك دول كان لها تاريخ كبير في تنظيم إيقاع علاقات الدول العربية والإسلامية مع الولايات المتحدة. وعلى رأس هذه الدول نجد المغرب في أقصى الغرب، والمملكة العربية السعودية في الشرق، وكلاهما بلدين لعبا دورا كبيرا في حماية دول عربية من الدخول في حمامات دم، بسبب زعماء من طينة حافظ الأسد وغيره من رموز المرحلة الذين قادت أنظمتهم بلدانهم نحو المجهول.
مد وجزر.. بين دمشق والرباط
في سنة 1992، وبالضبط في شهر أكتوبر، ركزت الصحافة الأمريكية على الزيارة التي أجراها الملك الراحل الحسن الثاني، والتي وصفت بالمكوكية، حيث زار خلالها الملك الراحل كلا من السعودية والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى كل من سوريا ومصر والأردن.
الزيارة كانت لرأب الصدع العربي، تماما كما وصفته الصحف الصادرة في العالم العربي في ذلك الوقت. إذ كانت الخلافات بسبب أزمة العراق والكويت، وتداعيات خسائر حرب العراق ضد إيران، واتهامات صدام حسين لعدد من الزعماء العرب بخيانته. ثم أوضاع القضية الفلسطينية، وهو الموضوع الرئيسي الذي اجتمع الملك الراحل خلاله مع القادة العرب، بعد فشل مساع كثيرة لعقد قمة عربية في واحدة من تلك الدول.
الرباط، كانت الأرض المحايدة في أكثر من مناسبة، منذ ستينيات القرن الماضي، التي قبل الرؤساء والملوك العرب بالاجتماع فيها في عز الخلاف العربي- العربي.
كانت طائرة الملك الراحل الحسن الثاني لا تحلق، إلا لتحط في عاصمة عربية في تلك الرحلة المكوكية.
عندما وصلت الطائرة إلى مطار دمشق الدولي، كان حافظ الأسد في انتظار الملك الراحل الحسن الثاني أسفل سلم الطائرة. كانت التحية الأخوية بين قائدي البلدين، علامة على نهاية الحرب الباردة التي قادها حافظ الأسد ضد الملك الراحل الحسن الثاني، تضمنت تمويل إسقاط النظام واستهداف الوحدة الترابية للمغرب، وتشكيل حلف مع القذافي الذي لم يخف تمويله للانفصال في الصحراء المغربية.
عندما طوى الملك الراحل الحسن الثاني الصفحة، كان الأسد قد فقد كل أمل في إنجاح ما كان يخطط له بمعية القذافي، واستنتج لاحقا أنه تحالف مع الكفة الخطأ ضد المغرب.
عندما وصل الأسد إلى السلطة في بداية 1971، وبصفته عسكريا، فقد كان يعول كثيرا على محيط الملك الحسن الثاني، خصوصا الجنرال أوفقير والكولونيل المذبوح، لبدء علاقة جديدة بين المغرب وسوريا بعد فترة التوتر الشديد، بسبب سياسة حزب البعث، وإنشاء مخيم الزبداني في نهاية الستينيات لتمويل الثورة المسلحة وتدريب المسلحين على حرب العصابات داخل المغرب.
أرسل الأسد رجل ثقته الأول، ووزير خارجيته، بمجرد ما أن وصل إلى السلطة، لكي يلتقي بالملك الحسن الثاني وينقل إليه نية الأسد في بدء صفحة جديدة مع المغرب. لكن الأحداث اللاحقة أظهرت أن الأسد كان فقط يدرس الاختيارات أمامه، قبل أن يختار الاصطفاف مع الجهة الخاسرة ضد المغرب. ويبصم قرابة طيلة 30 سنة، مدة حكمه إلى حين وفاته سنة 2000، عن علاقة متذبذبة مع الرباط، أصيب الأسد خلالها بإحراج كبير أمام الملك الراحل الحسن الثاني.
أشهر وزير خارجية أمريكي قلّل من شأن الأسد سنة 1971
العام الماضي توفي هنري كيسنجر عن عمر يُناهز 100 سنة.
لم يكتب لوزير الخارجية الأمريكي الأشهر في تاريخ أمريكا السياسي، أن يرى سقوط النظام الذي أسسه حافظ الأسد وكرسه بانتقال السلطة إلى ابنه، بعد وفاته في سنة 2000.
كان هنري كيسنجر متحفظا من لقاء حافظ الأسد عندما وصل إلى السلطة سنة 1971، إذ كان وقتها وزيرا للخارجية، وكان يعمل على ملف تدبير الأزمة الأمريكية السوفياتية، والتوافقات مع دول العالم العربي، لوقف انضمام الدول العربية إلى المعسكر السوفياتي.
سجلت تقارير «CIA» أن وزير الخارجية كيسنجر فضل عدم لقاء حافظ الأسد، عندما أصبح رئيسا لسوريا، وجاء في محضر اجتماع مغلق للوزير مع مستشاريه يعود إلى دجنبر 1971، ما يلي: «الوزير ليس متحمسا لأي لقاء في سوريا، حتى لو تم الأمر بوساطة عربية. ولم ينصح بفتح أي باب للاتصال مع الرئيس الجديد حافظ الأسد، وأبدى عدم استعداده لفتح أي اتصال مع وساطة من شأنها تسهيل لقاء معه في قادم الأيام».
لم يكن كيسنجر يؤمن بجدوى لقاء حافظ الأسد، بل إنه في تقارير أخرى قلل من شأنه، واعتبره غير كفء، وأنه مجرد اسم يملأ الفراغ ويأتمر بأمر القيادة.
كان كيسنجر، على اعتبار أنه يعلم جيدا الخلفية العسكرية لحافظ الأسد وماضيه في سلاح الطيران، يقلل من الأهمية السياسية لرئيس سوريا الجديد في سياق فبراير 1971. كما أن التقارب بين الجيش السوري في ذلك الوقت، والاتحاد السوفياتي، جعل الأمريكيين، خصوصا في المعارضة، يعتبرون أن أي اتصال بين وزير الخارجية والرئيس الجديد لسوريا خيانة للأمة، و«تطبيعا» مع السوفيات.
لكن، إليكم أعنف ما قاله كيسنجر في حق حافظ الأسد، وسجلته تقارير «CIA»، بل وتداوله ضباط من هذا الجهاز، بعد تقاعدهم. لقد قال كيسنجر مرة عن حافظ الأسد، في أحد اللقاءات التي طُرح فيها الوضع في الشرق الأوسط خلال الأزمة المصرية الإسرائيلية على عهد الرئيس أنور السادات، إن حافظ الأسد رجل ليس سياسيا أبدا، وإنه لا يستطيع تأليف جملة مفيدة، لكنه رغم هذا كله قد جعل من سوريا مفتاحا جزئيا للأزمة في الشرق الأوسط.
هذا الكلام الذي يقلل من شأن حافظ الأسد، ولا يقلل من شأن مكانته في المنظومة العربية، اعتُبر في حينه قاسيا في حق رئيس الجمهورية السورية، الذي لم يكن قد مضى وقتها على وصوله إلى السلطة أكثر من خمس سنوات. لكن الأحداث التي عرفها العالم في ما بعدُ، أبانت أن وزير الخارجية الأمريكي كان يتمتع ببُعد نظر سياسي. فحافظ الأسد كان خارج السياق في أغلب الأزمات العربية، ولم يصدر عنه أي موقف حاسم أو مؤثر في مسار النزاع في المنطقة.
ظل كيسنجر يتحاشى حافظ الأسد، وحتى السياق الذي تقاطعت فيه مسارات الرجلين سياسيا، قبل أن يرحل الأول عن الخارجية الأمريكية مع نهاية السبعينيات، لم يسجل فيها أي اتصال معمق بين الجانبين. وظل حضور سوريا في أجندات الوزير كيسنجر مقتصرا على السياق العربي، في إطار توصيات الجامعة العربية، أو اللقاءات مع الدول الصديقة مثل المملكة العربية السعودية والمغرب والأردن.
وفي واحدة من آخر خرجات كيسنجر في الصحافة الأمريكية، قبل سياق الربيع العربي، قال ما معناه إنه مصدوم لأن حافظ الأسد استطاع البقاء في السلطة ثلاثين سنة، وإنه شخصيا لم يكن يتوقع له أن يحافظ على كرسي الرئاسة أكثر من سنتين. وازدادت صدمة كيسنجر عندما رأى كيف أن الأسد نجح في توريث السلطة لابنه بشار الذي بقي رئيسا لسوريا 24 سنة، ولم يتخلص السوريون من إرثه الثقيل، إلا في نهاية سنة 2024، عاما بعد وفاة كيسنجر الذي عاش حياة امتدت لقرن كامل!
لقد كان كيسنجر يتوقع أن يهوي الأسد من القصر الرئاسي، قبل سنة 1973، أي خلال حرب أكتوبر بين مصر وإسرائيل. لكن الواضح أن الأسد استمر في السلطة في سياق عربي شديد الغليان، بل وكان مساهما في الأزمة العربية خلال غزو العراق للكويت، على اعتبار أن العلاقة بين العراق وسوريا لم تكن في أفضل حالاتها، وساهم مع القذافي في إضافة التوتر على العلاقات بين ليبيا والمغرب، حتى أنه في إحدى المناسبات، كان الزعيم العربي الوحيد الذي ساند القذافي في معارضته للقضية المغربية ودعم الانفصال في الصحراء المغربية، بداية الثمانينيات.
الأمريكيون تنصّتوا على لقاء بين الأسد وطلبة مغاربة سنة 1975
حسب تقرير لمكتب «CIA» في الأردن، فإن موظفي السفارة الأمريكية المشتغلين على مركز دمشق، والذي كان يحمل رمزا خاصا في توقيع التقارير السرية الخاصة بالشأن السوري المرفوعة إلى واشنطن، كانوا مهتمين بلقاء استقبل فيه الرئيس السوري حافظ الأسد فوجا من الطلبة المغاربة في شتنبر 1975.
كان الأمر يتعلق بقرابة 20 طالبا مغربيا، جاؤوا لبدء الدراسة الجامعية في العاصمة السورية دمشق، في تخصصي الآداب والقانون.
التقرير يقول إن مهندسي اللقاء قد خططوا له في باريس وليس في دمشق، وإن وفدا من الطلبة اليساريين قد التقوا بالسفير السوري في باريس، وهو الذي تولى التنسيق مع هؤلاء الطلبة، وأخبرهم أن القيادة في دمشق مهتمة بفتح باب الاتصال مع الطلبة المغاربة الجدد، وأن استقبالهم سوف يتم في أحسن الظروف، وتلقوا إشارات بأن الرئيس مهتم بظروف إقامتهم، وأعطى تعليمات للمسؤولين في وزارة التعليم أن يوفروا ظروف الإيواء الملائمة للطلبة المغاربة.
لكن الاستقبال في القصر الرئاسي بدمشق، لم يُعلن عنه إلا بعد وصول الطلبة المغاربة إلى العاصمة السورية بأكثر من أربعة أسابيع، حيث دعوا إلى لقاء مع عميد الكلية، الذي أشعرهم أن مسؤولا من ديوان الرئيس حافظ الأسد يود التحدث إليهم، قبل أن يوزع عليهم دعوات حضور حفل غداء ترأسه الرئيس، وحضر فيه وزير التعليم ورئيس الجامعة ووفد الطلبة المغاربة.
كان اللقاء، بحسب التقرير الأمريكي، وديا، وذُيل بالملحوظة التالية: «الرئيس تحاشى أن يتطرق إلى علاقته بالملك الحسن الثاني بشكل مباشر، وأعرب للطلبة عن أسفه من المضايقات التي يتعرض لها الطلبة العائدون من الدراسة في سوريا، وأخبرهم أنهم مُرحب بهم، وأن ما يروج عن دعم سوريا لأعداء النظام المغربي غير صحيح، وطلب منهم أن يكونوا سفراء لبلدهم في سوريا ويمثلوا المغرب أحسن تمثيل بين السوريين».
بدا الأمر وكأنه هدنة سياسية مؤقتة بين المغرب وسوريا. والحقيقة أن الأمر كان يتعلق بسياق التوتر بين المغرب وليبيا، ودعم دول كبرى مثل السعودية للموقف المغربي. وكان النظام السوري وقتها يمر بأزمة اقتصادية خانقة، اختار معها حافظ الأسد أن يهادن قليلا، سيما وأن القذافي كان قد رفض مد ياسر عرفات بمساعدات مالية، وجاء الأخير لكي يشتكي إلى حافظ الأسد الذي لم يكن يملك سيولة كافية لتمويل حركة فتح، وهو ما جعل الأسد يعيد ترتيب أوراقه بشكل مؤقت، ونتج عن ذلك حضوره القمة الإسلامية التي احتضنتها الرباط في وقت لاحق، لكنه سرعان ما عاد إلى سياسته العدائية ضد المغرب، مع بداية الثمانينيات.
بالعودة إلى ملف الطلبة المغاربة في سوريا، فإن أرشيف هيأة الإنصاف والمصالحة أكد فعلا وجود حالات اختطاف واختفاء لطلبة مغاربة كانوا يدرسون في سوريا، في نهاية الستينيات – قبل مرحلة بشار الأسد- وأواسط السبعينيات. هؤلاء الطلبة اختفوا أو اعتُقلوا وحقق معهم فور عودتهم في العطلة الدراسية من سوريا، ووجهت إليهم أسئلة تحت التعذيب، وقضوا فترة احتجاز غير قانونية، جرى معهم فيها تحقيق حول علاقاتهم في سوريا والاتصالات بينهم وبين البعثيين، وبعض المغاربة الفارين إلى سوريا منذ أحكام 1963، بعد مؤامرة يوليوز الشهيرة. إذ إن بعض رفاق الفقيه البصري كانوا يقيمون في سوريا، واختاروا اللجوء إليها بدلا عن الجزائر.
كما أن ملف المغاربة الذين تدربوا في الزبداني بسوريا على حمل السلاح، وسافروا إليها من باريس، وعادوا إلى المغرب بعد انتهاء فترة تدريبهم، تحضيرا لمؤامرة مولاي بوعزة التي جرت أطوارها سنة 1973. فبعد اعتقال دهكون ومن معه، اعترف أغلب الموقوفين بأنهم تلقوا تدريبا على استعمال السلاح في معسكر الزبداني بسوريا، وكان المعسكر السري تحت أعين النظام السوري في ذلك الوقت.
لاستفزاز المغرب.. شارع باسم بن بركة واستضافة عائلة الفقيه البصري
عندما اختفى المهدي بن بركة في باريس، نهاية أكتوبر 1965، كان أصدقاؤه في دمشق ينشرون مقالات منتظمة يوجهون فيها الاتهام إلى المغرب بالوقوف وراء اختفاء أشهر زعيم معارضة في العالم العربي. ولم تنته أجواء المحاكمة في باريس سنة 1966، حتى قرر السوريون إطلاق اسم المهدي بن بركة على واحد من أهم الشوارع في مدينة دمشق، ونشرت الصحف صوره في الذكرى الأولى لاختفائه، مضمنة مع عناوين مُسيئة للمغرب.
وقبل اندلاع قضية اختفاء المهدي بن بركة، كانت عائلة رفيقه، المعارض الفقيه البصري الذي كان قد غادر المغرب، قبل صدور حكم غيابي ضده بالإعدام، ضيفة على سوريا. حيث عرض النظام السوري وقتها، قبل وصول حافظ الأسد إلى السلطة بقرابة عشر سنوات، على الفقيه البصري الإقامة في دمشق، وخصص مسكنا لعائلته، وسمح له بولوج سوريا ولقاء رموزها السياسية.
زوجة الفقيه البصري، السيدة سعاد ولد غزالة، تحدثت إلى «الأخبار» في حوار سابق، في أول خروج إعلامي لها على الإطلاق، وكشفت عن فترة وصولها إلى سوريا رفقة ابنتيها في ذلك الوقت، حيث استحضرت تلك اللحظات بالقول إن السوريين كانوا مُعجبين بشخصية الفقيه البصري وأبانوا عن حفاوة كبيرة في استقباله رفقة أسرته. وفضلت في منفى زوجها الاختياري أن تدرس في الجامعة السورية، وهو ما تم لها فعلا، حيث نسجت صداقات متينة مع سيدات سوريا مثقفات، ولمست تقديرا كبيرا للمغرب في أوساط السوريين، بعيدا عن الحساسيات السياسية.
ومن أهم الذكريات التي عاشتها السيدة سعاد، أرملة الفقيه البصري، لحظات مشاركة الجنود المغاربة في حرب الجولان سنة 1967، حيث كانت تصطحب ابنتيها وسط العاصمة دمشق، قبل أن تضرب طائرة إسرائيلية المكان، ويظهر جنود على الميدان لاصطحاب المدنيين إلى ملاجئ للاختباء من القصف، وكانت سعادتها غامرة عندما اكتشفت أن أولئك الجنود كانوا مغاربة، ينتمون إلى التجريدة المغربية التي حلت في سوريا بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني للمشاركة في صفوف القوات العربية في الحرب ضد إسرائيل.
بالعودة إلى موضوع علاقة الفقيه البصري بالنظام السوري، قبل وصول الأسد إلى السلطة، فإن بعض التقارير التي رصدتها «CIA» وأدلت بها إلى المغرب في منتصف الستينيات، أكدت أن محمد الفقيه البصري كان قد تلقى عرضا بتوفير جوازات سورية له ولأفراد أسرته، لكنه اعتذر بلطف وفضل قبول عرض الصداقة الذي تمثل في منح عائلته حق الإقامة في الأراضي السورية.
إطلاق اسم المهدي بن بركة على أحد أهم شوارع العاصمة دمشق، تسبب في برود دبلوماسي بين المغرب وسوريا. وهذه المبادرة جعلت عددا من الشبان المغاربة المتحمسين والمعجبين بشخصية المهدي بن بركة، يشدون الرحال إلى سوريا لمواصلة الدراسة الجامعية هناك. خصوصا وأن التنديد في الرباط باختفاء المهدي بن بركة، والمطالبة بكشف مصيره، أو إحياء ذكرى اختفائه السنوية في الستينيات، كان يعني زعزعة النظام.
كان غرض النظام السوري من وراء الخطوتين -إطلاق اسم المهدي بن بركة على واحد من أهم شوارع دمشق، واستضافة عائلة الفقيه البصري – استفزاز المغرب، سيما وأن الأمر تزامن مع نشر مقالات متحاملة ومسيئة للمغرب، وهي الحملة التي لم تتوقف إلا في فبراير سنة 1971، عندما قرر حافظ الأسد، فور وصوله إلى السلطة، أن يلجأ إلى الهدنة مع الملك الراحل الحسن الثاني، لكنه سرعان ما غير سياسته مع المغرب، وارتكب أخطاء سياسية ساهمت في تأزيم العلاقات بين البلدين.
الحسن الثاني ألغى قمة 1981 ردا على غياب الأسد
الإعداد لمؤتمر فاس سنة 1981 كان على قدم وساق، وقد كان الملك الراحل الحسن الثاني يخطط لأن يكون المؤتمر قمة عربية ناجحة لحل الأزمات العربية.
سيطر التوتر والنزاع على العلاقات بين معظم الدول العربية. وكان الملك الراحل الحسن الثاني قد أرسل وزير خارجيته في ذلك الوقت امحمد بوستة، ضمن حكومة المعطي بوعبيد، في رحلات مكوكية للتنسيق بين قادة الدول العربية والحصول منهم على تأكيد للحضور.
جرى التنسيق، واقتنع أبرز القادة العرب بالحضور، خصوصا وأن الأجواء كانت متوترة، بسبب بوادر الحرب بين العراق وإيران الجديدة، بعد الثورة الإسلامية، والنزاع العربي الإسرائيلي.
نقل امحمد بوستة دعوة الملك الراحل الحسن الثاني إلى إنجاح القمة العربية، وضرورة الخروج بتوصيات تُترجم على أرض الواقع، وجعل القمة قمة «أعمال» لا قمة تسجيل للمواقف فقط.
عندما اقتربت ساعة الصفر، فوجئ الملك الحسن الثاني ببرقية عاجلة يعلن فيها الرئيس السوري حافظ الأسد اعتذاره عن حضور القمة في آخر لحظة. وجاء في الرسالة الموقعة من رئاسة الجمهورية، أن حافظ الأسد مصاب بنزلة برد منعته من حضور أشغال القمة.
وكان بعض الزعماء العرب قد وصلوا فعلا إلى المغرب، واستعدت مدينة فاس لاحتضان الحدث العربي الأبرز في بداية الثمانينيات.
وخرج الملك الراحل الحسن الثاني خرجة شهيرة، أعلن فيها تأجيل القمة إلى العام المقبل، في رد دبلوماسي قاس على حافظ الأسد. فقد كانت المعلومات التي راجت في كواليس التحضير للقمة المؤجلة تؤكد أن كل الزعماء العرب الذين جرى تبليغهم بتأجيل القمة، لم يكونوا مقتنعين بالذريعة التي قدمها حافظ الأسد لكي يتخلف عن الحضور.
سنة بعد ذلك، في 6 شتنبر 1982، عُقدت ما سميت تاريخيا بالقمة العربية الاستثنائية الثانية، وانطلقت أشغالها بدون حضور كل من مصر وليبيا.
تغيب المصريون، لأن العلاقات المغربية المصرية وقتها كانت متوترة. السياق العام كان وصول حسني مبارك إلى السلطة للتو، مباشرة بعد اغتيال أنور السادات، عقب تأجيل القمة الأولى التي تغيب عنها حافظ الأسد.
أما غياب ليبيا فقد كان مفهوما ومتوقعا، إذ إن القذافي كان متورطا في تمويل الانفصاليين في الصحراء، كما أن استضافته المعلنة للإذاعة الانفصالية التي تكيل السب والشتم للمغرب على أمواج الراديو، كلها عوامل جعلت حضوره القمة غير ممكن.
سياق قمة فاس لسنة 1982 كان مختلفا عن سياق القمة الأولى التي ألغيت، إذ إن أزمة معظم الدول العربية كانت قد تفاقمت في أقل من سنة، وكانت قمة فاس محطة ظهر فيها بالواضح أن حافظ الأسد ارتكب خطأ تاريخيا، لأنه لم يحضر القمة الاستثنائية الأولى التي كان فيها توافق ظاهر بين أغلب الدول العربية.