حرب المقررات الدراسية بين المغرب وفرنسا
بعد أكثر من قرن على تجربة «إدارة المعارف» المنقرضة
يونس جنوحي
«لقد تمكن مندوب المعارف الأستاذ عبد السلام الفاسي من التحصيل على نتيجة سارة، وهي تخصيص مبلغ خمسين مليون سنتيم إعانة للمدارس الحرة، غير أن الإدارة تأبى أن تمكن مندوبية المعارف من هذا المبلغ، إلا إذا سمح لها بالإشراف المالي والإداري والفني على سير المدارس الحرة، كما تُريد أن يكون توزيع الاعتمادات بحسب نظرها، وهذا ما يأباه المسؤولون عن هذه المدارس الحريصون على الاحتفاظ لها باستقلالها، إذ بذلك وحده يمكن الدفاع عن مركز اللغة العربية في التعليم بهذه البلاد».
الكلام هنا للسيد محمد الرشيد مُلين، وهو أحد أقدم العارفين بدهاليز وملفات القصر الملكي، أيام الحماية الفرنسية، بحكم أنه اشتغل في إدارات مهمة خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، من بينها إدارة المعادن، كما كان على اطلاع كبير بملف الأوقاف وإدارة المعارف، قبل أن يعوض هذا اللفظ بـ«التعليم».
+++++++++++++++++++++
مندوب المعارف.. الكرسي الحارق
لكي نفهم التركيبة الإدارية لمغرب الحماية، والتي كانت تُطبق على التعليم بفكين من فولاذ، لا بد أن نسترجع المخطط الذي وُضع لتسيير البلاد، بموجب عقد الحماية الذي يعود إلى سنة 1912.
إذ إن المقيم العام الذي وضع نفسه إلى جانب السلطان، كان متبوعا بالصدر الأعظم. وهذا الأخير، كان يشرف على مجموعة من المندوبين، أي أنهم يقعون مباشرة تحت سلطة المقيم العام، الذي يضغط لتمرير الظهائر الموقعة من طرف السلطان نفسه.
المندوب المغربي، بموجب قانون الإدارة الفرنسية في المغرب، يعمل تحت إشراف مدير فرنسي. وهذا الأمر كان ينطبق بالحرف على التعليم المغربي. لم يكن إذن منصب مندوب دائرة المعارف، قبل أن تُسمى وزارة التعليم، منصبا سهلا، وإنما كان كرسيا حارقا لا يمكن لصاحبه، كما سوف نرى في هذا الملف، إلا أن يكتوي بناره.
أما المديرون الفرنسيون الذين كانوا على صلة بميدان التعليم المغربي منذ بداية عشرينيات القرن الماضي، فنجد حسب ما سُجل في أرشيف الإدارة الفرنسية، السيد «طابو Mr. Tabot». ربما يكون هذا الأخير، الذي شغل منصب مدير المعارف، أو مدير التعليم، اسما على مُسمى، بشكل أو بآخر، إذ إن إشرافه على التعليم كان فعلا موضوعا من الطابوهات المحرم مناقشتها في المغرب، حتى في أوساط العلماء المغاربة. وكل انتقاد للتعليم الفرنسي في المغرب، كان يصل إلى مكتب مدير التعليم.
كان هناك مشكل مطروح بقوة في إدارة التعليم الفرنسي، وهو مسألة العقارات التي بُنيت فوقها المدارس الفرنسية، حيث إنها لم تكن كلها مُشتراة من ملاك مغاربة، وإنما أنشئ بعضها في أملاك الأحباس، في المدن الكبرى. وهو ما جعل مديرا آخر يدخل على خط التعليم الفرنسي في المغرب، وهو المدير «ليسيوني»، وهو رجل فرنسي ممن عاشوا تجربة الحرب العالمية الأولى، وكافأتهم الإدارة الفرنسية بالتعيين في المغرب. كان منصبه يتيح له الاطلاع على أملاك الدولة، خصوصا الأحباس، وقد كان ينسق مع إدارة التعليم لتخصيص بعض البنايات وتحويلها إلى مدارس بشكل مؤقت.
وهذه النقطة كانت موضوع انتقاد حاد تعرضت له فرنسا على يد الوطنيين المغاربة الأوائل، في ثلاثينيات القرن الماضي.
في هذا الملف، سوف نرسم ملامح بعض الشخصيات المغربية التي مرت من منصب إدارة المعارف، وكيف كان محتوى المقرر الدراسي المغربي موضوعا خلافيا كلف القائمين على التعليم غاليا. إذ إن جل الأسماء التي اشتغلت في قطاع التعليم الحر، في إطار مدارس الحركة الوطنية، ذاقت نصيبها من الإقصاء والتضييق على يد الإدارة الفرنسية، سيما عندما صارت مدارس الوطنيين تُنافس المدارس العصرية الفرنسية. ومع انتشار النداء الذي أطلقه الوطنيون بداية الخمسينيات، والذي يرمي إلى إبعاد أبناء المغاربة عن المدارس الفرنسية، ازدادت حدة العقوبات التي أطلقتها فرنسا ضد هؤلاء الوطنيين، والتي ارتفعت وتيرتها بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953.
هكذا تأسس التعليم المغربي لمنافسة مدارس فرنسا
في واحدة من الشهادات التي تتعلق ببداية إنشاء المدارس الحرة في المغرب والتي يعود تاريخها إلى عشرينيات القرن الماضي، وجاءت لمواجهة مد المدارس الفرنسية التي بدأت مع الحماية الفرنسية سنة 1912، نورد هنا شهادة أحد أوائل المغاربة الذين بادروا إلى إنشاء مدارس في ظل الحركة الوطنية بالدار البيضاء. ورغم أن تجربته قد تُعتبر متأخرة نوعا ما، مقارنة مع تجارب أخرى سبقتها بحوالي عشرين سنة أو أكثر، إلا أن تجربة إنشاء مدرسة حرة في ظل التضييق الفرنسي، بداية الخمسينيات، تبقى فعلا جديرة بالتأمل. يقول السيد حمزة الأمين، في حوار سابق مع «الأخبار»، تناولنا معه فيه ذكرياته، يقول:
«كان الأمر يتطلب التوفر على مقر وترخيص من السلطات الفرنسية، كما كانت هناك منح تصرف لمساعدة المشرفين على هذه المدارس لكي يدبروا شؤونها سنويا.
إذ كان لدينا تقريبا حوالي 70 تلميذا هم أبناء مواطنين مغاربة من مختلف المستويات. وكانت الأجرة التي يؤديها لنا الآباء تتراوح ما بين 3 و6 دراهم شهريا كحد أقصى عن كل تلميذ.
وتجارب المدارس الحرة أساسا كان لها وقتها دوران، الأول تدريس أبناء المغاربة وفق مقرر يهتم باللغة العربية ولا يهمشها مثل مدارس الفرنسيين، والثاني نشر الوعي الوطني والنضال في أوساط الآباء، من خلال دروس أسبوعية.
ومن تجليات هذا الانخراط في الوعي الوطني، فإن الأيتام من أبناء الشهداء والمعتقلين على يد البوليس الفرنسي كانوا معفيين من الأداء.
(..) المدارس المغربية الأولى الحرة أسست سنة 1928، ومن أوائل من فتحوا هذه المدارس نجد المدرسة الحرة لعبد الرحمن النتيفي في الدار البيضاء، وهو أحد العلماء السلفيين المغاربة. وهي أول مدرسة حرة في المدينة، وأطلق عليها مدرسة السُّنة.
ثم أسس محمد بن عبد الله مدرسة حرة بمدينة فاس، وأطلق عليها اسمه.
ومن بين أوائل من أسسوا هذه المدارس أيضا نجد الوزير أحمد بلافريج، الذي كان وزيرا أول ووزيرا للخارجية بعد الاستقلال. إذ إنه في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات أسس مدرسة حرة في الرباط. كان رواد الحركة الوطنية يدعمون بناء هذه المدارس وتأسيسها، خصوصا في سياق سنة 1937، أي قبل أن تنقسم الحركة الوطنية. إذ إن الحس الوطني عندما كانت الكتلة الوطنية موحدة كان يدعم إنشاء المدارس، حيث يتم جمع المساعدات لكراء المنازل وتحويلها إلى مدارس حرة مرخصة، أو اقتناء القطع الأرضية وبناؤها، حيث يحصلون على ترخيص من الإدارة الفرنسية، وكان أيضا السلطان محمد بن يوسف يقدم مساعدات في هذا الباب، إذ إنه كان يأمر بمنح سنوية لهذه المدارس.
في سنة 1943 أسس محمد العربي العلمي مدرسة حرة في الدار البيضاء، أطلق عليها اسم مدرسة الأمير مولاي الحسن. حيث كان يشتغل فيها أحمد بنسودة، الذي أصبح وزيرا ومستشارا ملكيا، أستاذا، وطبعا مؤسس المدرسة كان ينتمي إلى حزب الشورى. بينما أسس الاستقلالي محمد بنسودة المدرسة المحمدية».
الحرب الباردة بين القصر وفرنسا حول إنشاء المدارس
يقول ذ. عبد السلام محمد البقاش، في محاضرة ألقاها في غشت 1993، بعنوان: «حياة محمد الخامس في مجال التحرر والبنيات الأساسية لبناء الدولة المغربية»:
«لما توفي السلطان مولاي يوسف، واعتلى ولده سيدي محمد عرش المغرب سنة 1927م، انزعجنا كثيرا نحن الشباب الذين تجمع بيننا رابطة الوطنية العفوية المتحررة من كل القيود والانتماءات، فقد كان فينا الطلبة المنتمون إلى التعليم الإسلامي الأصيل، والطلبة المنخرطون في المدارس العصرية التي أنشأتها حكومة الحماية، وغير الطلبة من تجار صغار، وحرفيين، وبعض الموظفين والمعلمين، ومن إليهم، ولم يكن انزعاجنا للحدثين الطبيعيين اللذين لا بد منهما طال الزمن أم قصر، فإن من نواميس الحياة أن يموت الناس ملوكا وسوقه، ويخلفهم من يخلفهم في ولايتهم وأعمالهم، ولكن الباعث على الانزعاج كان هو استمرار الحماية وتوالي الملوك على العرش وهي قائمة من غير تقليص لظلها، ولا جعل حد لسيطرتها، فإذا كان تنازل السلطان مولاي الحفيظ عن العرش بمثابة احتجاج على هذه الحماية، واستنكار لتصرفاتها، فإن بقاءها طوال عهد مولاي يوسف، وتطلعها للبقاء في العهد الجديد، عهد سيدي محمد، يكسبها صفة الرعية، ويعطيها قوة الاستعمار… ثم يقول الأستاذ كنون: إلا أنه بعد أن أصدرت الإقامة العامة الظهير البربري، واحتج المغاربة في القبائل والمدن على السواء، كان سيدي محمد ممن احتج على هذا التصرف الأخرق في السر والعلن، ونزل بثقله في الميدان إلى جانب الوطنيين الذين تجمعوا في المساجد لقراءة اللطيف، فكانت هذه أول صدمة يصدم بها الفرنسيون من طرف السلطان الشاب».
هذه الشهادة تكشف إلى أي حد كان المغرب يعيش خصاصا كبيرا في مجال التعليم العصري القادر على إنتاج نخب في ثلاثينيات القرن الماضي لمواجهة المد الفرنسي، سيما في مجال التعليم.
التأطير السياسي، كان هو الشغل الشاغل لهؤلاء الشباب المغاربة الذين كانوا في سن الدراسة.
وهكذا فإن منصب مندوب المعارف، في السنوات الأولى لعهد الملك الراحل محمد الخامس، كان فعلا منصبا محفوفا بالألغام.
من جهة، كانت الإدارة الفرنسية تحاول السيطرة على هذا المنصب وجعله تحت نفوذها. وفي المقابل، كان العلماء المقربون من الملك الراحل محمد الخامس يرون في المنصب آخر القلاع التي تضمن للمغاربة الإشراف على تأطير الجيل المقبل من المغاربة. ونظرا إلى حساسية المنصب، فقد كانت المرونة مسألة خارج الاختيارات المتاحة للنخبة المخزنية المقربة من السلطان، خصوصا العلماء المنحدرين من جامعة القرويين.
وما يؤكد هذه المعطيات، كثرة الإعفاءات التي شملت الأسماء المتعاقبة على منصب إدارة المعارف، بسبب الرفض الفرنسي المستمر لبعض الأسماء المغربية، نظرا إلى التعاطف الكبير لأصحابها مع الحركة الوطنية.
إشراف الملك الراحل محمد الخامس بنفسه على تجربة المدارس الحرة المغربية، أزعج كثيرا الإدارة الفرنسية، سيما وأن الملك أشرف بنفسه على تدشين أوائل هذه المدارس، في الرباط وسلا والدار البيضاء. فبالإضافة إلى تزكيته لتجربة مدرسة أحمد بلافريج، القطب الوطني الاستقلالي، فإن الملك الراحل محمد الخامس أشرف بنفسه على بناء وتدشين المدرسة الحرة في مدينة سلا، والتي أشرفت عليها الأميرة لالة عائشة وتبرع الملك الراحل من ماله الخاص للمشاركة في بنائها.
هذه المعطيات التاريخية، تؤكد أن الصراع حول محتويات المقررات الدراسية كان وجها فقط من أوجه الصراع بين القصر والإدارة الفرنسية، حول التعليم في المغرب.
قصة «50 مليونا» ضغطت بها فرنسا للسيطرة على التعليم المغربي
خُصص، حسب وثائق الأرشيف الفرنسي، مبلغ 50 مليون سنتيم، في بداية خمسينيات القرن الماضي، للنهوض بقطاع التعليم المغربي، وهو مبلغ ضخم جدا في ذلك التاريخ.
كان مندوب المعارف المغربي وقتها، هو عبد السلام الفاسي، ورفضت الإدارة الفرنسية أن تسمح لمندوب المعارف، بالتصرف في هذا المبلغ. وهناك شهادة حصرية أوردها محمد الرشيد مُلين الذي كان موظفا في الديوان الملكي للملك الراحل محمد الخامس، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، في كتابه الذي صدر مباشرة بعد استقلال المغرب، بعنوان «نضال ملك»، جاء فيها:
«لقد تمكن مندوب المعارف الأستاذ عبد السلام الفاسي من التحصيل على نتيجة سارة، وهي تخصيص مبلغ خمسين مليون سنتيم إعانة للمدارس الحرة، غير أن الإدارة تأبى أن تمكن مندوبية المعارف من هذا المبلغ، إلا إذا سمح لها بالإشراف المالي والإداري والفني على سير المدارس الحرة، كما تُريد أن يكون توزيع الاعتمادات بحسب نظرها، وهذا ما يأباه المسؤولون عن هذه المدارس الحريصون على الاحتفاظ لها باستقلالها، إذ بذلك وحده يمكن الدفاع عن مركز اللغة العربية في التعليم بهذه البلاد.
ولو أن إدارة التعليم لم تقع في غلط فاحش عند وضع الأسس، لكانت حالة التعليم غير ما هي عليه اليوم. لقد كان بالمغرب عند توقيع معاهدة الحماية عدد من المدارس في مختلف المدن والبوادي، فهل اعتبرت الحماية هاته المدارس نواة لتعميم الثقافة بالمغرب، باستغلالها لما هو موجود وإدخال التعديل والإصلاح عليه. ولم تفعل من ذلك شيئا، بل أهملت هذا التراث الذي لم يكن يخلو من قيمة، مفضلة تأسيس تعليم جديد فرنسي اللغة، فرنسي البرامج، فرنسي الروح».
هذا الكلام الصادر عن أحد المقربين جدا من القرار وقتها، يبقى جديرا فعلا بالتأمل. ولولا أن القصر، ممثلا في الملك الراحل محمد الخامس، لم يدعم إنشاء المدارس الحرة، لربما كان وضع التعليم المغربي، أيام الحماية، أسوأ بكثير مما كان عليه.
سيطرة فرنسا على التعليم، لم تكن واقعا مفروضا على المغاربة، إذ إن الحركة الوطنية المغربية كانت تضع مسألة تحرير التعليم المغربي من قبضة الفرنسيين أولى القضايا التي اشتغلت عليها، وذلك بتأسيس المدارس الحرة المغربية التي كانت تعارض كل ما هو فرنسي في المغرب، وليس التعليم فقط.
مسألة الصراع بين القصر وفرنسا بخصوص التعليم، ممثلة في الصراع بين مندوب المعارف، والقائمين على التعليم في الإدارة الفرنسية بالرباط، تطورت لكي تصبح صراعا بين المغاربة عموما والإدارة الفرنسية.
المعطيات التاريخية تقول إن أعداد التلاميذ في المدارس الفرنسية في المغرب كانت تزداد بمعدل 10 آلاف تلميذ في السنة، وهو رقم رسمي أعلنت عنه فرنسا في خمسينيات القرن الماضي. لكن بالمقابل، كانت المدارس الوطنية بدورها تستقبل الآلاف سنويا، وبينهم أعداد كثيرة لتلاميذ سحبهم آباؤهم من المدارس الفرنسية وسجلوهم في مدارس الحركة الوطنية.
هذا الانتقال غالبا ما يكون بفضل الوعي الوطني للآباء، أو تأثرهم بنداء أعضاء الحركة الوطنية الذين شجعوا المغاربة على تسجيل أبنائهم في المدارس التي أنشأها الوطنيون. لكن بالمقابل، كانت هناك أصوات في المغرب طالما نادت بإدماج أبناء المغاربة في المدارس العصرية الفرنسية، داعية إلى ضرورة محاربة أمية الجيل القادم، وهو ما أفرز لنا النخبة المغربية الأولى التي أنجبت جيل الوطنيين الأوائل الذين درسوا في الجامعات الفرنسية في باريس وبوردو خصوصا، وليس فقط في مدارسها بالمغرب.
هكذا وُلدت تجربة إشراف المغاربة على المقررات الدراسية
في عشرينيات القرن الماضي، لم يكن المغرب يتوفر على الترسانة الإدارية الكافية لإدارة التعليم والإشراف على إنتاج مقررات دراسية مغربية مائة بالمائة.
تقول بعض المصادر التاريخية إن المغرب استفاد من مقررات دراسية قادمة من الشرق، جاء بها بعض العلماء المغاربة من مصر، في إطار موجة التأثر بالشرق، وفعلا فقد كانت مدارس كثيرة من تلك التي أنشأها الوطنيون المغاربة لتوفير خيار بديل للمغاربة عن المدارس الفرنسية، تعتمد مقررات جيء بأغلبها من الشرق، وكانت تحتوي على مفردات من العامية الشرقية، لكن تلك المقررات لقيت صدى واسعا في المغرب. ولم يكن المخزن المغربي يُعارض انتشارها في المدارس الحرة المغربية.
أحد الأسماء المغربية التي تفتخر بها المدارس الحرة المغربية، هو عبد الله الجراري. فهذا العالم المغربي الذي وُلد سنة 1905، درس في جامعة القرويين، وعمل مُدرسا بعد ذلك، وهو في سن مبكرة لم يبلغ العشرين بعدُ.
خاض الجراري تجربة فريدة في الإذاعة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، حيث اختير لتجويد القرآن الكريم، وكان يزاوج بين هذه المهمة وبين التدريس، سيما وأنه حصل على شهادة العالمية سنة 1932.
في سنة 1939 عينه الملك الراحل محمد الخامس كاتبا بدار المخزن، ومن هذا المنصب ولج إلى دار المعارف، نائبا لمندوب المعارف، وكُلف بمهمة التفتيش في التعليم باللغة العربية.
لم يكن الجراري، رغم حساسية المنصب الذي تقلده، يخفي ميولاته الوطنية، خصوصا وأنه مارس بعض الأنشطة الوطنية عندما كان في القرويين بفاس، وهو ما جر عليه انتقادات الإدارة الفرنسية، ليتحول هذا التحفظ الأولي إلى مطالبة بإعفائه في نهاية أربعينيات القرن الماضي، بسبب التعديلات التي أدخلها على مقررات التعليم في المدارس الحرة المغربية، ورفضه الانصياع لبعض توجيهات الإدارة الفرنسية.
فرنسا طالبت في وثائق رسمية، بحذف بعض النصوص التي تتضمنها المقررات الدراسية في المدارس الحرة، سيما الموجهة إلى الأقسام الابتدائية، والتي كانت الإدارة الفرنسية ترى فيها تهديدا لها. لكن نائب مندوب المعارف، الذي كان مكلفا بالتفتيش، لم يهتم بتوجيهات الإدارة الفرنسية، وهو ما أدى إلى عزله من منصبه سنة 1953، وأُبعد مع أسماء وطنية أخرى عن الإدارة.
أدى الجراري إذن ضريبة عدم الانصياع وراء توجيهات الإدارة الفرنسية في ما يتعلق بمحتوى المقررات الدراسية المغربية، خلال أربعينيات القرن الماضي. وعاش إقصاء كبيرا تزامن مع نفي السلطان محمد بن يوسف إلى خارج المغرب. لكنه عاد إلى المسؤولية بعد الاستقلال، وشارك باسم المغرب في لقاءات العلماء المسلمين وأنشطة أخرى في مجال تخصصه في الدراسات الإسلامية. كما عرفت عنه مناصرته للغة العربية، وهو ما جعله يدفع في اتجاه المحافظة على اللغة العربية الأصيلة في المقررات الدراسية المعتمدة في المدارس الحرة. في ما كانت حصص التدريس العربية في المدارس الفرنسية الرسمية بالمغرب، خارج تخصصه، بحكم أنها كانت تابعة للإدارة الفرنسية بشكل مباشر، وتعتمد في تدريسها على أساتذة من جنسيات أخرى، خصوصا الجنسيتين التونسية والجزائرية.
وهذه النقطة بالذات كانت من الأمور الخلافية بين مندوب المعارف والإدارة الفرنسية، بسبب تضمن المقررات العربية الموجهة إلى أبناء المغاربة في المدارس الفرنسية على مغالطات كثيرة، رأى فيها المحافظون المغاربة أنها ترمي إلى طمس الهوية المغربية وتزوير التاريخ.
أساتذة فرنسيون حولوا التلاميذ المغاربة إلى مُتهمين
النقطة التي أفاضت الكأس بين أعضاء الحركة الوطنية والإدارة الفرنسية، ممثلة في مديرية التعليم التابعة للإقامة العامة، كانت هي محتوى المقرر الدراسي الذي تقدمه فرنسا في مدارسها المفتوحة أمام أبناء المغاربة.
خصوصا المقررات التي كانت واسعة الانتشار في أوساط المدارس التي تتوفر على أقسام داخلية، مثل المدارس الفلاحية التي كانت منتشرة في منطقة الغرب خلال أربعينيات القرن الماضي.
عندما فطن أفراد الحركة الوطنية المغربية إلى وجود محتوى يمس بتاريخ المغرب، ثاروا ضد الإدارة الفرنسية، خصوصا مع رصد حالات طرد لتلاميذ مغاربة احتجوا على أساتذة فرنسيين، بسبب تداول الحالة السياسية للمغرب في حصص الدراسة.
هذا المعطى، أكدته مصادر من داخل الحركة الوطنية، سيما وأن بعض الوجوه من داخل الحركة الوطنية كانوا على دراية بما يقع داخل أسوار المؤسسات التعليمية التي كان يوجد بها أساتذة فرنسيون.
من هؤلاء نجد الراحل عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان يُدرس أبناء المغاربة في إحدى مدارس مدينة سلا، في بداية أربعينيات القرن الماضي. هذه المدرسة كانت معروفة بمعاداة أساتذتها للإدارة الفرنسية، وكانوا يستقبلون حالات التلاميذ الذين جرى فصلهم من المدارس التي تتبع للإدارة الفرنسية. أحد هؤلاء، يُدلي هنا بشهادة حصرية لـ«الأخبار»، واسمه محمد التيجاني. هو من مواليد سنة 1935، وكان تلميذا في المدرسة الابتدائية سنة 1948، وعاش تجربة الطرد من مدرسة في الدار البيضاء. يقول: «كنت قد تجاوزت العاشرة، عندما طُردت من المدرسة الابتدائية التي كنا ندرس بها نحن أبناء المدينة القديمة في الدار البيضاء. أذكر تلك الأجواء، بحكم أننا كنا نخرج كل صباح ونمر بمحاذاة ساعة باب مراكش الشهيرة، وننعطف يمينا ونقطع الشارع في صفوف طويلة، لكي نتوجه إلى المدرسة الابتدائية. كنا ندرس مادة الجغرافيا عند أستاذة فرنسية كان اسمها «مادام جانيت». هذه الأخيرة كانت تستغل حصص الدراسة لتمرير أفكار مغلوطة عن جغرافية المغرب وتاريخه. وأذكر أنني انبريتُ لها في واحدة من الحصص التي قالت لنا فيها إن المغرب كان صحراء جرداء قاحلة قبل مجيء فرنسا، وإن السكان المغاربة كانوا خارج الحضارة إلى أن جاءت فرنسا إلى البلاد. والنتيجة أنني طُردت من المدرسة بقرار من المدير. أخذني والدي، رحمه الله، من الدار البيضاء، ولجأنا إلى دار الحاج معنينو الذي كان من معارف والدي. وبحكم أن والدي كانت لديه تجارة في الرباط، فقد وضعني في منزل صديقه الحاج التهامي في مدينة سلا، مخافة أن يُصيبني مكروه، بسبب طردي من المدرسة. إذ إن المدير أخبر والدي حرفيا بأن اسمي صار في اللائحة السوداء، وأنني على رأس قائمة المشكوك فيهم كلما حدثت مظاهرات أو أعمال تخريب تطال المدرسة مستقبلا. تولى الحاج التهامي تسجيلي في المدرسة، وصرت أعيش في سلا، وهناك تعرفت بعد سنوات قليلة على عبد الرحيم بوعبيد الذي أنشأنا معه علاقة وطيدة تشبه الأبوة وليس فقط علاقة بين الأستاذ والتلاميذ، وصرنا نحضر بتوجيه منه، اجتماعات حزب الاستقلال في مدينة سلا، وتشكل وعينا الوطني على يديه».