حرب المائة عام في الشرق الأوسط (1 ـ 2)
بقلم: خالص جلبي
مع حرب غزة في ربيع 2021 م ومن قبل في شتاء 2009م، تكون إسرائيل في حالة صراع مسلح لمدة تزيد على سبعين عاما، ولذا فيجب توقع استمرارها مثل الحروب الصليبية قرنا أو يزيد. وهو ما أطلقه عليها من هذه التسمية مؤرخ إسرائيلي هو (رويفين موسكوفيتش) الروماني، الذي توقع فيها نهاية إسرائيل، ما لم يتم تدارك المنطقة بامتداد ظل الاتحاد الأوروبي عليها. ولذا فنحن مقبلون على عصر من الظلمات بعضها فوق بعض، من شحن اللاوعي بكل أصناف الكراهية، مثل كل الخراجات المزمنة الخطيرة المملوءة قيحا ودما، من العنف الذي يولد في ظلمات الإحباط، وهو ما يقرره عالم النفس السلوكي، سكينر، عن تدافع أمواج العواطف مثل أمواج البحر الهادرة. إن ما يتكون في اللاوعي أكبر بكثير مما نتصوره. وأحيانا كما يقول المؤرخ (جون أرنولد توينبي) إن صدام الحضارات يتطلب ألفا من السنين، قبل أن تظهر آثاره المدمرة، وقوانين تدافع التاريخ ليست كما في الفيزياء معادلة القوة مختلفة الاتجاه، بل هي عاتية مدمرة من سلسلة لا نهاية لها من تشابك واصطدام العلاقات؛ فهل إسرائيل في قوة أم ضلال؟ أما (نورمان فينكل شتاين) فكان في طريقه لكتابة مخطوطة جديدة بعنوان «باي باي إسرائيل، أي وداعا وداعا». والرجل علمته أمه التي خرجت من محارق أوشفيتز أن لا يعيد خطأ النازيين بإنزال العذاب بأضعف منهم. وهو ما فعلته إسرائيل بحماقة في شتاء 2006م في حرب غزة فقتلت ودمرت، وعادت فكررت من جديد بمعدل كل سنتين أو ثلاث، ولم تحصد سوى الكراهية واستهجان العالم، وزيادة الحقد على إسرائيل، على نحو تراكمي، يتخفى في ظلمات اللاوعي لأجيال قادمة؛ فيتفجر قيحا ودما كما في الخراجات الملعونة المزمنة المتقيحة.
إن مشكلتنا كما أبرزها (مالك بن نبي) هي مشكلة (انهيار حضاري)، وكلما اطلعت على الإنجاز العلمي والتراكم المعرفي الذي يحققه الغرب تأكد عندي أننا قطار خارج سكة الحضارة، قطار تعرض لحادث تاريخي مروع فأهله بين مصاب وقتيل، وعرباته محطمة متوقفة عن الحركة مرمية خارج القضبان.
ومن الأمثلة على هذه الحيوية المتدفقة في مفاصل العالم الغربي أذكر ثلاثا:
ـ (الأول) مشروع لحفظ تراث الجنس البشري على يد الأمريكيين في بنسلفانيا، في إيداع أكثر من سبعين مليون صورة وثائقية في سراديب تحت الجبال، بعمق سبعين مترا ودرجة حرارة عشرين تحت الصفر، على أمل نقلها بالديجيتال إلى الإنترنت العالمي خلال سنوات قبل أن تفسد، وهو مشروع طوروه بنقله إلى القمر على افتراض حرب ذرية مدمرة، فيبقى سطح القمر أكثر أمنا من عبث البشر المفسدين في الأرض سافكي الدماء.
ـ و(الثاني) براميل لا حصر لها مملوءة بالميكروفيلم في جبال فرايبورغ بألمانيا، تحمل كل ما أنجزه الجنس البشري من معرفة في كل حقول المعرفة الإنسانية، تزداد باضطراد بإضافة كل معلومة جديدة، بحيث يطلع عليها بقايا الجنس البشري، أو كائنات خارج أرضية، في حال تعرض كوكبنا لخطر الزوال فيعرفوا إلى أين وصلت الحضارة.
ـ و(الثالث) هو مشروع حفظ الحياة في (روكفيل) في ضاحية (واشنطن)، حيث يقوم مشروع يحفظ كل خلية وجرثوم وفيروس ونسيج لكل الكائنات الحية الموجودة على ظهر البسيطة، محفوظة في الآزوت المجمد 160 تحت الصفر في المشروع المعروف (ATCC= American-Type-Culture-Collection)، ما يذكر بسفينة نوح تضم من كل زوجين اثنين، بحيث يمكن استنساخ أي عينة من هذا الكهف الجليدي كما في قصة أصحاب الكهف، وهي هنا رحلة تقترب من الأبدية في عشرة آلاف سنة تحافظ الخلايا فيها على نفسها، وليس ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا. وهذا المشروع طور على نحو أكثر فاعلية ودرامية بمشروعين:
1ـ الأول على يد أبو النمل (إدوارد أوسبورن ويلسون) من جامعة هارفارد، بمشروع إنسكلوبيديا الخلائق (EOL) قبل أن تفنى، لأنه لا يمر يوم إلا وتفنى فيه لغة وشعب ومخلوق حي.
2ـ والثاني مشروع (كريج فينتر) الجني الذي فك الجينوم البشري، ثم لحقه جينوم الشمبانزي وإنسان نياندرتال المنقرض، ليتطور إلى جينومات كل الخلائق بما فيها المجهولة، وهو مشروع مهول هائل.
وهذه النماذج توضح بجلاء حركة التراكم المعرفي الذي يحققوه على مدار الساعة، بسبب أن تلك المجتمعات موضوعة كقطار على سكة حديدية، ماض في طريقه إلى أجل مسمى، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
والمؤرخ (رويفين موسكوفيتش) الذي نقرأ تحليله هو من مواليد رومانيا 1928 م، نجا من محارق النازية، وهاجر إلى فلسطين عام 1947م وهو متخصص في العلاقات الألمانية اليهودية، نال درجته العلمية تحت عنوان بين العنف وقوة الفكر «فكر القوة أم قوة الفكر؟». وشارك في تأسيس قرية للسلام بين اليهود والعرب في تل أبيب، ولأهمية التحليل سوف نعرض أهم الأفكار التي جاءت فيه:
يرى موسكوفيتش أن قصة الدكتور (جيكل) الطيب والشرير (هايد) تصلح نموذجا لفهم قانون نفسي اجتماعي، فإذا كان الأفراد غير محصنين ضد هذا المرض؛ فإن الشعوب تخضع للقانون نفسه، وإسرائيل لا تشذ عن هذه القاعدة. وفي ضوء هذا القانون يمكن قراءة سفر دولة إسرائيل.
إن إسرائيل عانت من الإبادة النازية، وتركت فيها جروحا في الذاكرة الجماعية غير قابلة للبرء والاندمال، ولكنها أصيبت بهوس (الأمن)، يحسبون كل صيحة عليهم.
كما كان بالمقابل مؤلما لإسرائيل ثلاث مرات: في الاعتراف بقراري 242 و338، والتنازل عن الأراضي المحتلة مع حرب 1967 م، وبداية الاعتراف بالدولة الفلسطينية.