حرب التجويع في مضايا
حرب التجويع في مضايا ليست بالجديدة، فهي من أشد أساليب كسر الإرادة في وجه الطغيان بالحرمان من الحاجيات الأساسية، بعد منع دخول الهواء بالخنق والقتل والنحر. كما فعل نظام بشار البراميلي مع اقتلاع حنجرة المغني الحموي (قاشوش) وتحطيم أصابع رسام الكاريكاتور (فرزات) وأنامل (اللوزي) رئيس تحرير مجلة الحوادث التي خرجت مجللة بالسواد في نعيه وكنا يومها في ألمانيا الغربية.
في إقليم هونان في الصين حيث جرى تحطيم صنم الطاغية ماو المطلي بالذهب الخالص، وهذا ليس من فراغ فعلى يد هذا الوثن مات ثلاثون مليونا من الأنام جوعا بالمسغبة في ظل ما سمي بالثورة الثقافية.
القرآن تعرض لأسلوب فرعون: لأجعلنك من المسجونين. وفي سورة الأنفال الأساليب الثلاث المعهودة: القتل ـ النفي ـ السجن (الحرمان من الحرية) وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك (السجن) أو يقتلوك (الاغتيال السياسي) أو يخرجوك (النفي) الآية رقم 30.
مضايا أعرفها جيدا وفيها كنت أستجم وأدرس استعدادا لامتحانات كلية الطب. ليس مضايا لوحدها بل بقية المصايف الجميلة بقين والزبداني وبلودان. كنت مع صديقي (عرفان عبيد) الذي يستضيفني في بيته في مضايا ونحن ندرس مادة التشريح، بل وفي نسمات الصباح المنعش تدرجا نحو بقين والزبداني قرأت كتاب ميلاد مجتمع لمالك بن نبي، مثل مادة الفسيولوجيا والتشريح إن لم يكن أكثر، فأنا عشرة بالمائة مني طبيب وطب وجراحة وعمليات والباقي فكر وكتابة.
أكتب هذه الأسطر من ثلوج كندا في يناير من عام 2016م ودرجة الحرارة عشرين تحت الصفر، وأعرف البرد جيدا في منطقة مصايف الشام الرائعة، ولكن الجوع هو الشيء الجديد على المنطقة التي لا تعرف كلمة الجوع، فهي جنات ذات بهجة للناظرين ومتعة للساكنين ومصدر للخضروات والفواكه الطازجة.
في الزبداني أعرف عائلة خيطو وزيتون وعائلة طه، وفي مونتريال من كندا في يناير 2016 اجتمعت بمهندس من آل طه سألته عن فاروق طه وأخوين له أحدهما طبيب قلب في أمريكا فقال لي لقد كان فاروق في السجن فلم يخرج إلا إلى المقبرة. تذكرت الرجل جيدا وليس الوحيد في العزاء السوري الكبير. تذكرت (قاسم الططري) أستاذ الجغرافيا الذي كان يموت في تدمر على نحو بطيء وينظر عبر الأفق مودعا ويقول يا إخوتي نحن الآن في عالم البرزخ. مات الططري لاحقا مع عشرات الآلاف من خيرة شباب سوريا في سجن تدمر الرهيب وحين دخلته داعش قامت بأفظع عمل إجرامي حين دمرت أداة ومكان الجريمة، كما حصل من إزالة آثار سجن تزمامارت.
هكذا أصبحت سوريا مقبرة ومدفنة وأرض غزاة من قوزاق وصفوية يقتلون أطفال سوريا ويستبيحون نساءهم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. أعرف في مضايا عائلة (عبدة) الكرام، وفيها جربت فتح عيادتي الأولى أيضا في مثل ظروف هذا البرد.
الجوع مفردة عجيبة تذكرني بقصة أبو محمد (عبد الكريم خوجا) الحلبي الذي كان معتقلا في نفس مكان اعتقالي أنا والشيخ جودت سعيد في الحلبوني، حيث كان قصر تاج الدين الحسني رئيس الجمهورية ما بعد الاستقلال؛ فحولته المخابرات العامة إلى مكان تعذيب المعتقلين السياسيين.
تدخل المكان لتستقبلك في الوسط على طريقة البيوت الدمشقية القديمة (والفاسية في المغرب) نافورة ماء جميلة تغدق الماء رجراجا، قد تحولت إلى مكان لترطيب خيزرانات الجلادين وعصيهم فيضربون الناس، ونحن المعتقلون نعرف أين وصلت حفلة التعذيب تلك، ذلك أن صوت المضروب المعذب يتأرجح بين الأنين الإنساني وعواء الحيوانات من سلالات شتى بين عواء ذئاب ونباح كلاب وثغاء ماعز ومواء قطط ونعيب غربان، مع صرخات الاستغاثة، والحلف بالله، وطلب الدخيل على الجلاد بالرحمة بدون فائدة؛ فلا بد أن يدلي بمعلومات ولو كاذبة.
كان الجلاد أبو طلال أشدهم شراسة. قال لي أبو محمد الخوجا الذي كان معتقلا في فرع المخابرات العامة معنا: حبست في غرفة واطية السقف، وكنت محظوظا أن كنت قصير القامة فارتفاع السقف لا يزد عن 160 سم وأنا كنت أقصر بقليل فنجوت من تقوس الظهر قبل الشيخوخة.
تابع أبو محمد: (أبو طلال) هذا تعرض لإطلاق نار في إحدى الحانات بين الكاس والطاس وبنات الهوى سكرانا مترنحا وربما أصيب بعطب في ساقه في شجاره مع أمثاله.
كنت مع الشيخ جودت نحزر ونقول لو أن رجلا استطاع أن يتابع حياة هؤلاء الجلادين ونهايتهم فلسوف يخرج بكتاب شيق جدا. يقال عن حمزة البسيوني الذي كان يصرخ في المعتقلين «لو جاء ربكم لحبسته في زنزانة» أن المجرم تعرض لاحقا لحادث سيارة فخبطته شاحنة ثقيلة فارتطم وتمزع فلم يعثر من جسده الهالك إلا على نتف من لحم محترق. وأذكر أن صحفية مصرية قدمت الصورة المقلوبة حين كتبت عن اللحظات الأخيرة للمحكومين بالإعدام وكيف استقبلوا الموت.
صديقي أبو محمد خوجا (رحمه الله) قال بعد فترة طويلة في هذه الزنزانة الإفرادية القصيرة: طلبني (عدنان الدباغ) و(محمد الخولي) وكلاهما سفاحان من المخابرات العامة والمخابرات الجوية، وكلاهما حملا الأسد الأب إلى سدة الحكم بالخنجر والمؤامرة وقتل الرفاق.
قال (أبو محمد الخوجا): سألوني عن رأيي فيهما فكنت صريحا فغضب الدباغ الحلبي وأمر بضربي يوميا بالعشي والإبكار وتجويعي.
انتبهوا الآن لطريقة التعذيب بالتجويع فأنا أنقلها عن صاحب تجربة.
قال الخوجا: تمنيت بعد أن عانيت من الجوع ما عانيت أن يزاد علي في جرعة الضرب مقابل إطعامي. السفاح عدنان الدباغ الحلبي (مات لاحقا مختنقا بسرطان الرئة على الرغم من نفقات الأسد الكبير عليه في لندن) كان بارعا في طرق التعذيب بابتكار أسلوب التجويع.
أنا شخصيا كتبت له رسالة حين وجودي في قبضته في فرع المخابرات العامة رقم 273 في الحلبوني في مكان قصر الحسني، كي يرسلني إلى الجبهة يستفيد مني كطبيب؛ فإذا انتهت الحرب (حرب 1973م) يعيدني إلى محبسي ولكن لمن تقرع الأجراس، كما يقول إرنست همنجواي؟
يومها كان معنا (أبو راشد) الفلسطيني ـ لم نعرف اسمه قط ـ وأظنه من جماعة الصاعقة الفلسطينية (الفرع العسكري لفتح) وكان ممن غضبوا عليه. ذكر لي أنه في تلك الحرب وقع بعض الطيارين الإسرائيليين في يد النظام السوري فعوملوا بأفضل منا. ولا غرابة ولا جديد.
وأحداث الثورة السورية الحالية تروي قصة التناقض الجوهري والأساسي في العالم العربي أنه عربي ـ عربي وليس عربيا صهيونيا، ولولا التفسخ والانهيار العربي ما ولدت إسرائيل أصلا. ولولا زوال مظلة دولة بني عثمان لما هلك السوريون كما حصل في الثورة ضد العسكريين القتلة.
أذكر جيدا من القرآن من سورة البقرة الآية 155 تلك الفقرة عن المعاناة بالجوع. ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين.
كنت أشرح لصهري (أبو حميد) في مونتريال وزوجتي المغربية تلك المراحل العصبية من دعوة هذا الرجل الاستراتيجي (نبي الرحمة ص) وكيف كان محميا قبليا؛ فأمر الضعفاء غير المحميين بقبائلهم وعائلاتهم ـ خوفا عليهم من الفتنة ـ بالهجرة إلى الحبشة.
قلت لأبو حميد: كما فعلت أنا وأنت في اللجوء إلى هذه الأرض التي اسمها كندا حيث لا يظلم فيها الإنسان، مقابل أولئك الذين يجوعون في مضايا ويعانون من البرد والقتل وظلمات البعث.
تذكرت معاناة الصحابة في المقاطعة التي تمت للمجتمع الإسلامي الوليد، حين كتب زعماء قريش وثيقة مقاطعة لآل طالب وجاعوا في (الِشعب = بكسر الشين) وهو الوادي الضيق ثلاث سنين عددا، حتى جاء من أهل النخوة من رفض مثل هذه المعاملة، ودعا إلى رفع الحصار عن الجياع من أهل قريش؛ فلما ذهبوا لتمزيق الصحيفة وجدوها قد انتهت من نفسها بعد أن أكلتها دابة (ديدان) الأرض؛ فكانت الحشرات أرحم من الوحوش الإنسانية، وأعلنت تضامنها مع المظلومين ولو بأكل الوثيقة الظالمة.
النظام السوري لا يعرفه المغاربة ـ حين أروي لهم بعضا من فصوله ـ فليس من احترق بلهبه كمن سمع بخبر النار. سوريا تحترق لسبب بسيط، لأنها غابة جافة منذ نصف قرن كانت تنتظر عود ثقاب حتى تأكلها النيران.
في الحرب العالمية الثانية مات جلّ الجيل النازي وهو ما سيحدث مع النظام البعثي العسكرتاري المقيت وجيله المجرم، وسيعرف السوريون ثمن الحرية بعد جوع وفقر وحرمان وإذلال وقتل فيقولوا لا عودة للعبودية، كما حصل مع بني إسرائيل بعد تدمير فرعون وجيشه وما كانوا يعرشون.
في القرآن هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود؟ بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ.
مع كتابة هذه الأسطر تناهى لسمعي خبر تفجيرات جاكرتا في 14 يناير 2016م، والأشد منها في إستنبول في نفس الوقت حين أقدم المجرمون (غالبا من تحالف مافيا النظام السوري وأوغاد بوتين) على تفجير مركز السلطان أحمد السياحي فأخذوا إلى الموت مائة أو يزيدون ومعهم ثلة من السياح الألمان.
أقول حين قصّر السوريون في قطع الطريق على الانقلاب البعثي عام 1963م، دفعوا الثمن في حماة بقتل أربعين ألفا، وتدمير نصف المدينة، وحرق أناس على قيد الحياة كما في أفلام الهولوكوست النازية؛ وحين لم يفعل السوريون شيئا أمام كارثة حماة دفعوا الثمن أنهارا من الدماء في أحداث الثورة على مدار خمس سنوات، ولأن أوباما (والغرب) يتفرج على الملهاة بعيون ضفدع، ولا يفعل شيئا فهو يدفع الثمن في باريس ومالي وجاكرتا وإسطنبول عاصمة بني عثمان وبوركينا فاسو (في العاصمة وجادوجو) وسيناء وموسكو حيث يستعرض بوتين عضلاته.
وأقول أكثر إذا كان غزو أفغانستان مقدمة في انهيار الإمبراطورية البريطانية، وتشظي الاتحاد السوفيتي فمزقوا كل ممزق فهم نثارات في صفحات التاريخ؛ فسوف تكون الدماء السورية نهاية لبوتين، ولسوف يخرج مدحورا خاسئا مذؤوما لمن تبعه من مجرمي إيران حافيا بدون بوط واحد.