شوف تشوف

الرأي

حديث الطرشان

يونس جنوحي

حماس كبير يحيط بموضوع التخلي عن اللغة الفرنسية وتعويضها باللغة الأم في الإدارات، أو اعتماد الإنجليزية لغة ثانية في البلاد.
ليست الجزائر أول دولة يجري فيها هذا النقاش، ولا المغرب، ولا أي بلد عربي آخر. فقد سبقتنا دول آسيا إلى هذا النقاش، في دول حصلت على الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي. أي أنها سبقتنا إلى معمعة التعامل مع تركة الاستعمار بفترة زمنية معقولة، ولم يجلس سياسيوها لنقاش مسألة اللغة، إلا عندما تمكنوا من صناعة الكراسي التي يجلسون عليها بأنفسهم. لا يتسع المجال هنا لسرد أمثلة في هذا الباب، لكن يكفي تأمل الإقلاع الذي بدأته سنغافورة واليابان، للوقوف على مدى جدية مسألة اللغة في تحقيق الإقلاع الاقتصادي.
الجزائريون هذه الأيام فرحون جدا لمسألة التخلي عن اللغة الفرنسية، وتعويضها بالعربية في بعض الإدارات. وكأن حال البلاد سوف ينصلح بمجرد عدم اعتماد الفرنسية في المراسلات. علما أن جل المسؤولين في الدول المغاربية عموما «تهرب» ألسنتهم وبلاغاتهم الرسمية إلى الفرنسية، وهناك منهم من لا يتحدثون العربية، إلا مع مُعد الشاي وموزع الأوراق في الاجتماعات.
مسألة اعتماد اللغة العربية في الإدارات لا يجب أن تكون خاضعة للمزاج، مثل ما حدث في الجزائر على إثر تصريحات الرئيس الفرنسي، بل يجب أن تكون قضية أمة أولا.
لا ننسى كيف انبرى رموز الحكومة السابقة التي ترأسها عبد الإله بنكيران، لمواجهة دعوات اعتماد اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية، وقادوا حملة سياسية حقيقية ضد وزير التعليم. طبعا، من حق الجميع المشاركة في نقاش من هذا النوع. لكن ما وقع لا يرقى أبدا لكي يوصف بـ«النقاش»، لأنه كان مزايدات فارغة لا غير. والدليل أنه لا أحد اليوم يتطرق إلى هذا الموضوع الكبير.
المضحك أن بعض وجوه «الأزمة» كانوا يعلنون اللغة العربية خطا أحمر، ويهددون بالاستقالة، في حال ما إذا تم اعتماد الفرنسية في تدريس المواد العلمية، رغم أنهم أرسلوا أبناءهم إلى فرنسا للدراسة، وجلهم يتابع أبناؤهم دراستهم الابتدائية والإعدادية في المغرب، لدى مدارس البعثة الفرنسية. صدق أو لا تصدق. هذا ما وقع بالضبط!
مسألة اللغة أعمق بكثير من مزايدات السياسيين في ما بينهم. ولعل من المضحك اليوم أن نستعيد كيف حاول الحبيب الشوباني عندما كان وزيرا للعلاقات مع البرلمان، أن يفرض بصمته في الوزارة سنة 2012، عندما بادر إلى اعتماد اللغة العربية في إحدى الوثائق الداخلية. واعتبر وقتها الأمر إنجازا، فيما في الحقيقة لم يكن الأمر سوى دغدغة للمشاعر.
اعتماد اللغة العربية أو الأمازيغية يجب أن يبدأ أولا ببناء اقتصاد قوي، يمثل هذه الهوية المغربية ويدافع عنها في العالم، مثل ما وقع في الدول التي أقلعت اقتصاديا، ثم فرضت لغتها في ما بعد. وبما أن الكثير من أنصار تيار الحزب قادوا الحملة ضد اعتماد الفرنسية في تدريس اللغات العلمية، يعتبرون تركيا نموذجا يُحتذى، فالأجدر بهم أن يقلدوها في مسألة اعتماد اللغة، إذ إن الإقلاع الاقتصادي والسياحي هو الذي رسخ للغة الأتراك، والأمر نفسه وقع في إيران، مع اختلاف في السياق والمجال بطبيعة الحال.
أما أن يستيقظ الجزائريون صباحا، ويعلنون مسح الفرنسية من واجهة المحلات ويافطات الإدارات واعتماد العربية بدلها، فهذا أمر يثير ارتياح فرنسا أكثر مما قد يقلق أحدا هناك.
إذ إن المغرب مر بتجربة اعتماد الكتابة بالعربية في واجهات المحلات، منذ أزيد من ستين سنة. وناقشنا موضوع الفرنسية، منذ أربعينيات القرن الماضي، عندما قررت الحركة الوطنية مقاطعة المناهج الفرنسية. وقتها كان السذج يعتقدون أن الوطنيين لديهم غيرة على اللغة والهوية المغربية، فيما كانوا في الحقيقة يدعون صباحا إلى مقاطعة الفرنسية، وفي المساء يرسلون أبناءهم إلى فرنسا للدراسة بها، ويدعون المغاربة إلى الخروج في مظاهرات لرفض المناهج الفرنسية. مسلسل مستمر منذ ذلك الوقت، والمشاركون في النقاش تظهر عليهم أعراض حديث الطرشان. الكل يتحدث ولا أحد يسمع صوت الحقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى