شوف تشوف

الرئيسيةبانوراماسياسية

حجب الثقة يسقط الحكومة الفرنسية

مطالب باستقالة الرئيس ماكرون للخروج من الأزمة

بعد إعلان رئيس الوزراء الفرنسي ميشيل بارنييه تفعيله المادة 49.3 من الدستور لتمرير ميزانية الضمان الاجتماعي دون الحاجة إلى التصويت، صوت البرلمان الفرنسي، مساء أول أمس الأربعاء، على حجب الثقة من الحكومة. وبهذا تكون حكومة بارنييه أول حكومة فرنسية تجبر على التنحي، من خلال تصويت بحجب الثقة منذ العام 1962.

 

سهيلة التاور

 

قدمت الحكومة الفرنسية استقالتها إلى رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، أمس الخميس، بعد حجب النواب الفرنسيين الثقة، أول أمس الأربعاء، عن الحكومة، بعدما رفض رئيس الوزراء، ميشيل بارنييه، الرضوخ لمطالب الأحزاب اليمينية واليسارية بإجراء تنازلات إضافية بشأن خطط الميزانية الوطنية. إذ وافق 331 من أصل 577 نائبا في فرنسا، أول أمس، على الإطاحة برئيس الوزراء الفرنسي في تصويت بحجب الثقة.

وبهذا سيغادر رئيس الوزراء منصبه، مسجلا أقصر فترة ولاية عبر تاريخ فرنسا الحديث، مما يضغط على ماكرون للتدخل ومواجهة الأزمة السياسية والاقتصادية المتصاعدة التي تهدد ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو.

وقال تقرير نشرته صحيفة «لوفيغارو» إن «زلزال إسقاط الحكومة ستكون له تداعيات تمتد إلى قصر «الإليزيه»، حيث استدعى ماكرون فريقه على الفور، بعد عودته من زيارة الدولة إلى المملكة العربية السعودية، مساء اليوم نفسه».

 

جذور الأزمة

سارع رئيس الحكومة ميشيل بارنييه إلى طرح الثقة بحكومته، يوم الاثنين الماضي، ليستطيع تمرير ميزانية الضمان الاجتماعي من غير مناقشة. إلا أن اليمين المتطرف، ممثلا بالتجمع الوطني، واتحاد أحزاب اليسار والخضر (الذي يضم الاشتراكيين والشيوعيين وحزب فرنسا الأبية والخضر) سارع، كل من جانبه، إلى طلب التصويت على الثقة.

ورغم أنه لا شيء يجمع بين هذين التشكيلين اللذين يقعان على طرفي الخريطة السياسية الفرنسية، فإنهما اجتمعا على إسقاط ميشيل بارنييه وحكومته، لأسباب متضاربة.

وبالتالي يكون بارنييه، المفوض الأوروبي السابق الذي تفاوض مع البريطانيين من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، قد حقق رقمين قياسيين: الأول أن عمر حكومته هو الأقصر من بين كافة حكومات الجمهورية الخامسة التي أرسى دعائمها الجنرال شارل ديغول عام 1958. والثاني أنها الحكومة الوحيدة التي تسقط في البرلمان، بسبب عجزها عن تجديد الثقة بها منذ ستينيات القرن الماضي.

 

رصيد بارنييه مع لوبن

لا يعني سقوط بارنييه أن الرجل السبعيني الذي يجر وراءه تاريخا سياسيا حافلا، لم يكن رجل المهمة الشاقة التي أسندها إليه ماكرون، وحقيقة الأمر أن ما يحصل حاليا ليس سوى أحد تداعيات حل المجلس النيابي السابق، الذي أقدم عليه ماكرون دون سبب واضح.

وأفضت نتيجة الانتخابات النيابية، في يونيو الماضي، إلى قيام 3 مجموعات نيابية لا تمتلك أي منها الأكثرية المطلقة التي تمكنها من تسلم زمام الحكومة. وبعد أسابيع من المماحكات والتردد، أوكل ماكرون المهمة لبارنييه الذي ينتمي إلى حزب سياسي (اليمين الجمهوري أو الجمهوريون سابقا) حل في المرتبة الرابعة ولم يحصل إلا على 47 نائبا، بينما حصل تحالف اليسار على 193 نائبا، وتحالف الأحزاب الداعمة للرئيس ماكرون على 164 نائبا، واليمين المتطرف على 141 نائبا. ولأن التقليد يقضي بتكليف الحزب أو التجمع الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد، فإن ماكرون ناور لأسابيع لاستبعاد اليسار عن السلطة، ونجح في ربط نواب «اليمين الجمهوري» بعربة حزبه، من خلال اختيار شخصية تنتمي إلى صفوفه، وحصل على تعهد من زعيمة اليمين المتطرف بألا تطيح سريعا بالحكومة الجديدة.

هكذا ولدت الحكومة الجديدة مع لاعبين متلاصقين: الأول أنها لا تمتلك الأكثرية النيابية، والثاني أنها رهينة ما ستقرره زعيمة اليمين المتطرف. ولأن الوعود في السياسة لا تلزم إلا من يتلقاها، فقد انقلبت لوبن على بارنييه وعلى تعهداتها واتهمت الأخير بأنه صم أذنيه عن مطالب حزبها، بينما الحقيقة مغايرة تماما، إذ تجاوب مع اثنين من 3 طلبات، بل سعى، في ربع الساعة الأخير، إلى الاتصال بها ليعلمها بالتراجع عن رفضه آخر طلباتها، الذي يتناول الربط بين مؤشر الغلاء وبين المعاشات التقاعدية.

وقبل ذلك، خضع بارنييه لمطالب القاعدة التي مبدئيا تدعم حكومته. وباختصار، فإن الأخير وجد نفسه في وضع يستحيل معه الاستمرار والمحافظة على ماء الوجه سياسيا، ما دفعه إلى خيار طرح الثقة، علما بأن ميزان القوى في البرلمان لا يميل إلى صالحه.

وفي آخر كلمة له في البرلمان، أطلق بارنييه آخر رصاصاته، ساعيا إلى وضع النواب أمام مسؤولياتهم. وقال: «لقد وصلنا إلى ساعة الحقيقة التي تضع كلا منا أمام مسؤولياته. والآن، تعود إليكم، أنتم نواب الأمة، أن تقرروا ما إذا كان بلدنا بحاجة إلى هذه النصوص المالية الضرورية (ميزانية الرعاية الاجتماعية) المفيدة لمواطنينا، أو أنكم تفضلون ولوج أرض مجهولة». وأضاف مقرعاً النواب: «لن يسامحكم الفرنسيون، لأنكم فضلتم مصالحكم الشخصية على مصلحة مستقبل الأمة». وكان متوقعا أن يكرر الأمر نفسه في كلمة له متلفزة، مساء الثلاثاء الماضي.

 

مطالب باستقالة ماكرون

دخلت فرنسا، كما ألمانيا، مرحلة من المطبات الهوائية الحادة. والرئيس ماكرون الذي احتاج لأسابيع طويلة قبل تكليف بارنييه تشكيل الحكومة، سيجد نفسه بمواجهة الصعوبات نفسها، بل إنه في طريق مسدود. فالتوازنات السياسية في البرلمان لن تتغير، ومواقف الكتل الثلاث الرئيسية ثابتة، بمعنى أن أيا منها لا يمكن أن يقبل بالتعاون مع الكتلتين الأخريين.

إن تجربة إرضاء لوبن، التي راهن عليها ماكرون وبارنييه، لم تعد متوفرة، إذ «المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين». من هنا، فإن ماكرون الذي لا شيء يمنعه من إعادة تكليف رئيس الحكومة الحالي، قد لا يجد أمامه سوى مخرج ضيق، عنوانه تشكيل «حكومة تكنوقراطية»، بمعنى أن يكون رئيسها وأعضاؤها غير منتمين إلى أي تيار سياسي.

فحكومة من هذا النوع ستكون بالغة الضعف وستعمل «بالقطعة»، بمعنى أنه سيكون عليها أن تسعى، إزاء أي قرار أو إجراء أو قانون، إلى البحث عن أكثرية أو عن شيء ليس بالضرورة الإجماع أو الموافقة العلنية، بل القبول الضمني فقط. والمعلوم أن حكومات من هذا النوع لا تعمر طويلا، وليس بمستطاع ماكرون أن يحل البرمان مجددا إلا في شهر يونيو المقبل، إذ يمنع الدستور رئيس الجمهورية من حله للمرة الثانية، قبل مرور عام كامل بين الإجراءين، حتى إن وصل إلى قصر الإليزيه رئيس جمهورية آخر.

وقد أخذت أصوات أكثر فأكثر تطالب باستقالة ماكرون كمخرج من الأزمة. وحتى اليوم، كانت المطالبة تأتي من جان لوك ميلونشون، زعيم اليسار المتطرف، ومن حزبه «فرنسا الأبية». والحال أن زعيمة اليمين المتطرف انضمت إلى المطالبين بالاستقالة، ويعزو المحللون والمراقبون ذلك للصعوبات التي تواجهها مع القضاء والمحاكم، بسبب فضيحة استغلال حزبها، لسنوات، الأموال الممنوحة لنوابه في البرلمان الأوروبي، لأغراض حزبية، وليس لتسهيل عملهم وأنشطتهم كنواب أوروبيين. وطلب الادعاء الفرنسي بإرسالها إلى السجن 5 سنوات، منها سنتان فعليتان يمكن تحويلهما إلى ارتداء السوار الإلكتروني وحرمانها من الترشح 5 سنوات نافذة، ما يعني القضاء على مستقبلها السياسي.

 

رد ماكرون: «خيال سياسي»

استبعد ماكرون أي احتمال للاستقالة، معتبرا أن سيناريو القيام بذلك لكسر الجمود الداخلي يرقى إلى مستوى «الخيال السياسي».

وقال للصحافيين، الثلاثاء الماضي، إن استقالته «ليست منطقية». وأضاف: «أنا أقف أمامكم (بصفة رئيس)، لأن الشعب الفرنسي انتخبني مرتين. أنا فخور جدا بذلك، وسأحترم هذه الثقة بكل طاقتي حتى الثانية الأخيرة، لأكون مفيدا للبلاد».

ورجحت بعض الشخصيات المعارضة، وحتى أصوات تعد أقرب إلى أوساط الرئيس الفرنسي، أن تكون الاستقالة الخيار الوحيد المتاح أمام ماكرون.

إلى ذلك، اتهم ماكرون التجمع الوطني وزعيمته مارين لوبن التي ترشحت ثلاث مرات إلى الرئاسة الفرنسية، بممارسة «خبث لا يحتمل»، من خلال دعم مذكرة حجب الثقة عن حكومة بارنييه. وقال: «لا يجدر بنا أن نخيف الناس بهذه الأمور، لدينا اقتصاد قوي».

 

مشاكل اقتصادية

من جهته، قال كارستن نيكل، نائب مدير الأبحاث في شركة «تينو»، هذا الوضع المؤقت قد يستمر لعدة أشهر، حيث لا يمكن إجراء انتخابات جديدة حتى العام المقبل، في حين أن أحد الاحتمالات الأخرى هو استقالة ماكرون، مما قد يؤدي إلى إجراء انتخابات رئاسية في غضون 35 يوما.

وأضاف أن مثل هذه السلسلة من الأحداث ستؤدي إلى عدم إقرار مشروع قانون الموازنة، ويبدو أن التوصل إلى اتفاق في اللحظة الأخيرة أمر غير محتمل.

لذلك، من المحتمل أن تقدم الحكومة المؤقتة قانونا دستوريا خاصا من شأنه «تمديد حسابات عام 2024 بشكل فعال، دون أي من تخفيضات الإنفاق أو زيادات الضرائب المتوقعة سابقا، مع تمكين الحكومة من الاستمرار في تحصيل الضرائب»، كما قال.

وفي خضم الاضطرابات، ترتفع تكاليف الاقتراض الفرنسية، في حين يتأثر اليورو بالمشاعر السلبية التي تفاقمت، بسبب البيانات الصناعية القاتمة لمنطقة اليورو والتقلبات السياسية المتزامنة في ألمانيا.

وقال محللون في ماي بنك: «تواجه فرنسا احتمال زيادة العجز المالي، الذي سيصبح تمويله أكثر تكلفة مع ارتفاع عوائد سندات الحكومة، وسط هذا الغموض».

وبالنسبة إلى المستثمرين الدوليين، يبدو الوضع في فرنسا «سيئا للغاية»، كما قال خافيير دياز- جيمينيز، أستاذ الاقتصاد في كلية الأعمال IESE الإسبانية، وقال: «بدون موازنة، سيتخلفون فعلا عن السداد، ليس لأنهم لا يستطيعون دفع فوائد ديونهم، ولكن لأنهم لن يفعلوا ذلك بدون موازنة. وكالات التصنيف الائتماني تُصدر بالفعل تحذيرات، وسندات الخزانة الفرنسية تتحمل علاوة أعلى من سندات اليونان، وهو أمر غير منطقي». فقد فقدت اليونان لفترة وجيزة تصنيفها الائتماني الاستثماري وسط أزمة ديون منطقة اليورو، مما أدى إلى تخلف الدولة عن سداد ديونها السيادية.

لقد قلص خبراء الاقتصاد بالفعل توقعاتهم للنمو في فرنسا، بعد نشر اقتراح الموازنة في أكتوبر، نظرا إلى زيادات الضرائب الشاملة، وخفض الإنفاق العام.

وقال المحللون في بنك ING الهولندي، الذين توقعوا سابقا تباطؤ النمو الفرنسي من 1.1 بالمائة في عام 2024 إلى 0.6 بالمائة في عام 2025، يوم الثلاثاء الماضي، إن سقوط حكومة بارنييه «سيكون بمثابة نبأ سيئ للاقتصاد الفرنسي». كما توقعوا تمرير موازنة مؤقتة تعكس إطار عام 2024.

وقالوا: «إن مثل هذه الموازنة لن تصحح مسار الإنفاق العام»، متجاهلين هدف بارنييه المتمثل في خفض العجز العام من 6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 5 بالمائة في عام 2025، وهو ما يعني أن فرنسا لن تتحرك نحو تلبية القواعد المالية الجديدة للاتحاد الأوروبي.

«في وقت يتباطأ فيه النمو الاقتصادي في فرنسا بشكل ملحوظ، فإن هذا يعد نبأ سيئا. سيظل العجز العام مرتفعا، وسيستمر الدين في النمو، وستواجه الحكومة المقبلة – متى كانت- مهمة أكثر صعوبة لتصحيح المالية العامة»، كما قال محللو ING.

ولاحظ جيل مويك، كبير خبراء الاقتصاد في مجموعة «AXA»، في مذكرة، يوم الاثنين الماضي، أن «فرنسا يمكن أن تعتمد على احتياطيات كبيرة من المدخرات المحلية لتحل محل المستثمرين الدوليين، ويساعد تدفق البيانات في منطقة اليورو في فصل العائدات الأوروبية عن العائدات الأمريكية، ولكن في الأمد المتوسط، قد يصبح توجيه قدر كبير من المدخرات المحلية لتمويل الحكومة مكلفا من حيث ديناميكيات النمو».

«لقد انخفضت ثقة المستهلك بالفعل، وقد يرتفع معدل الادخار أكثر، مما يحبط انتعاش الاستهلاك الذي تعتمد عليه الحكومة لدعم إيرادات الضرائب في عام 2025»، كما قال مويك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى