حتى لا يتكرر سيناريو 1991
لنتأمل هذا المشهد: طلبة الطب يضربون عن الدراسة لشهور، ويرفعون بلا هوادة مطالب يصرون على الاستجابة لها، وبينما يعتقد الجميع أن الأمور ستقف عند الاحتجاج وأن الأزمة ستعرف طريقها نحو الحل مهما طال الوقت بالحوار بين الأطراف، يتمخض العام الدراسي أمام دهشة الجميع عن سنة بيضاء.
الذين يفتخرون بأن مقاطعة طلبة الطب للامتحانات هي سابقة في المغرب لا يعرفون ماذا حدث سنة 1991، وهذا طبيعي لأن طلبة الطب اليوم لم يكونوا قد ولدوا سنة 1991.
والواقع أن المغرب سبق له أن عاش سنة بيضاء بسبب إضراب طلبة الطب، وبالتحديد بكلية الطب بالدار البيضاء. لذلك فما أشبه الليلة بالبارحة، مع فارق مهم وهو أن ما يحدث اليوم هو أقسى وأمر، فالعواقب المنتظرة سنة 2019 ستكون أوخم بالتأكيد.
نحن اليوم أمام مشهد باعث على الحزن والأسى والحيرة.
لدينا من جهة، ومنذ ثلاثة أشهر، 8000 طالب وطالبة يدرسون بسبع كليات للطب وتنسيقياتهم، والذين يتشبثون بشعار «سنة بيضاء أفضل من مستقبل أسود»، ولدينا من جهة أخرى وزارتا التعليم العالي والصحة اللتان تتهمان الطلبة برفض مقترحاتهما، ولدينا الناطق الرسمي باسم الحكومة الذي يتهم جماعة العدل والإحسان بتحريض الطلبة على المقاطعة، وقبل ذلك بتحريض ساكنة جرادة.
ولدينا من جهة ثالثة جماعة العدل والإحسان التي تتهم الحكومة بالفشل وتنتقد توقيف ثلاثة من أساتذتها، والمفارقة هي أن الحزب الذي ينتمي إليه الناطق الرسمي باسم الحكومة تتحكم في مفاصله حركة دعوية اسمها «حركة التوحيد والإصلاح» التي تجمعها، في إطار شراكة استراتيجية، علاقات متشعبة مع جماعة العدل والإحسان، مما يطرح أسئلة عميقة حول علاقة الحزب الحاكم بالاحتجاجات الشعبية التي يعرفها المغرب في شتى القطاعات.
وقد سمعنا أن وزراء العدالة والتنمية، خصوصا الأعضاء المؤسسين لحركة التوحيد والإصلاح، لم يكونوا جميعهم على قلب رجل واحد بخصوص اتهام جماعة العدل والإحسان وذكرها بالاسم في بلاغ حكومي، والشيء نفسه عبر عنه حزب لشكر عبر تدوينة برلمانيته، غواصة الحزب لدى العدل والإحسان، نفت تهمة التحريض عن الجماعة.
وإذا كنّا نعرف أن علاقة العدالة والتنمية عبر حركته الدعوية التوحيد والإصلاح مع جماعة العدل والإحسان هي علاقة مصلحية تظهر عند المحطات الانتخابية، فإن علاقة الاتحاد الاشتراكي بالعدل والإحسان هي علاقة ملتبسة تميل أكثر نحو رغبة الحزب في الاحتفاظ بوشائج رفيعة مع الجماعة بهدف استعمالها كفزاعة للتفاوض مع الدولة في ساعة العسرة.
من جانبها لا تريد الوزارة سماع حكاية السنة البيضاء وتتوعد الطلبة بتكرار السنة والطرد بالنسبة للطلبة الذين استوفوا سنوات التكرار المسموح بها.
وشخصيا لدي قناعة بأن المشكل أصبح قضية دولة، وأن الدولة لن تتراجع حتى ولو اقتضى الأمر عدم اجتياز الامتحانات.
ومما عقد الملف هو وصول شظايا هذه الحرب إلى هيئة التدريس حيث دخلت نقابات التعليم العالي على الخط، مما تشابكت معه الخيوط إلى درجة أن الأمر يحتاج الآن إلى معجزة للوصول إلى حل يرضي الجميع.
ويبقى، في ظل أزمة كهاته، الغائب الأكبر هو صوت الحكمة والتبصر، فماذا يقول العقل؟
عين العقل هو إنقاذ السنة الدراسية أولا، لأنه لا أحد من مصلحته أن تضيع سنة على طلبتنا، لا هم ولا عائلاتهم التي كابدت من أجلهم ولا الدولة ولا المجتمع الذي ينفق على دراستهم من ضرائبه وينتظر رد الجميل منهم بعد التخرج.
جميع النقط الخلافية تقريبا تم التوافق حولها، إلا نقطة الإقامة، وهي النقطة التي تشكل مربط الفرس في هذا الملف، إلا أنها ليست آنية، فالفوج الأول من طلبة كليات الطب الخاصة لن يكون جاهزا إلا بعد سنتين، وعدده لن يتجاوز 260 طبيبا.
الرسالة التي أراد طلبة الطب العمومي إيصالها قد وصلت وتم التقاطها وفهمها، فهم يعلنون مخاوفهم من فشل الجامعة العمومية، ويرون بكل بساطة أن التكوين في الكليات الخاصة والعامة هما خطان متوازيان لا يجب أن يلتقيا، وأن شعار «الطب ليس مهنتك» الذي يريد البعض زرعه في أذهان أبناء الطبقات الشعبية لا مكان له في مغرب اليوم.
الآن الأولوية هي إنقاذ السنة الجامعية، ويمكن التفاوض مع الوزارة لحسم هذه النقطة بعد إنقاذ الموسم مباشرة، فما زال هناك متسع من الوقت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن بعد أيام قليلة سيصبح إجراء الامتحانات أمرا غير ممكن بقوة الواقع بسبب عطلة الأساتذة والجامعة، وسيكون لا مفر آنذاك من ضياع السنة الدراسية، وهناك وراءنا سابقة 1991، هذا السيناريو السيئ لا يرغب في إعادته أي مغربي له ذرة غيرة على سمعة بلده، لأن ضياع سنة دراسية له انعكاسات سلبية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، كما أنه سيلحق أفدح الأضرار بالقيمة والمصداقية العلمية لكلياتنا التي يكفيها ما تعانيه من اختلالات.
ومع ذلك، وللإنصاف، فهناك الآن نقاش عميق نجحت هذه الإضرابات في بعثه من جديد وطرحه فوق الطاولة حول الجدوى من ازدواجية التعليم في المغرب بين الخصوصي والعمومي، والفائدة التي ستعود على المجتمع المغربي منها.
الآن تعليمنا يسير بسرعتين مما سيؤدي حتما إلى شطر المجتمع الى نصفين، نصف يتلقى تعليما خاصا يؤهله للتفوق ويمنحه الفرص الكبيرة في الحياة، ونصف آخر نصيبه تعليم عمومي فقير محدود الآفاق، مما سيعيق تجسير الهوة بين الفقراء والأغنياء، ويؤدي حتما إلى تآكل الطبقة الوسطى، ويفقد التعليم دوره كمصعد اجتماعي للطبقات الهشة نحو الطبقات العليا.
هذا الصراع الذي احتدم بين طلبة الطب الخاص والعام هو الجولة الأولى فقط لجولات أخرى قادمة من الاصطدام بين فئات المجتمع قد تكون، لا قدر الله، أكثر اتساعا واحتدادا وتأثيرا بشكل سلبي على مستقبل الوطن.
إنها الأجراس الإنذارية الأولى لما ينتظرنا إن لم نبادر إلى طرح نموذج تنموي جديد يعوض هذا النموذج المعطوب الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، لأن الأمر لا يتعلق بمجرد أزمة في نظامنا التعليمي بل بأزمة عميقة في نموذجنا التنموي برمته، وما يحدث اليوم ليس سوى ارتدادات لهذه البؤرة الملتهبة.
ولذلك لا بد أن ننبه إلى أن هدف الدولة من التعليم لا ينبغي أن يكون كهدف الأفراد، فالدولة ينبغي أن توظف التعليم من أجل صهر المجتمع وبناء تماسكه ولحمته، وهذا هو البعد الهوياتي والحضاري للتعليم بعد بعده المعرفي، وذلك على عكس الأفراد الذين يسعون فقط للمصلحة الخاصة لأبنائهم.
لكن المشكلة الحقيقية الآن تتجلى في وجود حاجز نفسي كبير لدى الطلبة وعائلاتهم التي فقدت الثقة في الحكومة وفي وعودها، إذ هناك شكوك حول ما إذا كانت هذه الحكومة تعمل أصلا لصالح الشعب، ولذلك لم يعد أحد يصدقها حتى عندما يحدث أن تكون نيتها صادقة.
يجب إذن، وباستعجال، تبديد هذا التوجس وإصلاح صورة الحكومة أولا ليكون لحوارها صدى لدى هؤلاء الطلبة وأوليائهم والرأي العام .
كما على الطلبة وعائلاتهم أن يتحلوا بالذكاء والنباهة، وهي خصال لا تعوزهم، لكي يتفطّنوا لحالة الاستقطاب الحاد التي تستعر حولهم منذ بدء إضرابهم والمنبعثة من طرف أحزاب وتيارات تبحث لكي تستعملهم كحطب تحرقه ليدفئها في عزلتها أو يدفعها في زحفها نحو السلطة، ولكم في العدالة والتنمية إسوة باهرة في كيفية التنكر للمبادئ وإدارة الظهر للشعب بعد اختطاف أصواته بالبكاء والنحيب وادعاء المظلومية.
إن الحل يجب أن ينصب على ضمانات حكومية بأن التعليم الجامعي لن يعرف مصيرا قاتما مثل التعليم الابتدائي والثانوي اللذين التهمهما التعليم الخصوصي بشكل شبه كامل.
إن التعليم الجامعي الخاص ليس بدعة مغربية، بل هو موجود في كثير من البلدان، ولكنه لا يتسبب فيها في نكبة التعليم العمومي، ولذلك كان على البرلمان والحكومة عندنا أن يضعا القوانين التي تضمن أن لا يلاحظ المواطن الفرق بين التعليمين الخاص والعمومي في الجودة والوسائل والآفاق ليطمئن قلبه، وللأسف هذا ما لم يقع في المغرب، فالحكومة الحالية أثبتت عدم قدرتها على استشراف وتوقع المشاكل قبل حدوثها بدل استسلامها للمؤسسات المالية الدولية وانغماسها في تتبع وإصلاح فضائح أعضائها.
لذلك فليس من المستبعد مع هذا الاحتقان أن يكون الحل هو ذهاب هذه الحكومة التي أهلكت الزرع والضرع، ولكن بالمقابل ينبغي على الطلبة أولا أن ينقذوا سنتهم هذه، وأن يعطوا إشارات على وعيهم ومرونتهم وقدرتهم على إدارة هذه الأزمة دون الوصول إلى نهايات درامية على مستقبلهم وعلى صورة الجامعة المغربية.
وبعد ذلك فدرب النضال أمامهم مفتوح دائما لإنقاذ الجامعة والمستشفى العموميين، بعيدا عن محترفي ركوب الأمواج، وهذا طبعا هدف نبيل وحيوي يشاطرهم فيه الجميع.