شوف تشوف

الرأي

حتى الملائكة تسأل

بقلم: خالص جلبي
في أكتوبر 2010 تفجرت إسطنبول بالقنابل نارا، بالموضة الجديدة من الانتحاريين، كما وقعت مذبحة في كنيسة ببغداد (الكرادة) فقتل أكثر من 37 شخصا، هذا غير من قلعت عينه، وطارت كتفه، وتهشمت ركبته فأصبحت للتشليح، عفوا عن هذا التعبير. وبين ذلك التاريخ وكتابة هذه الأسطر تدفقت الدماء في أرجاء المعمورة بنهر قان أحمر.
مناظر القتل والجريمة حرضت المخيلة عند أستاذ الرياضيات، جيفري لانغ، الأمريكي الذي اعتنق الإسلام أن يكتب ثلاثة كتب كان الثاني بعنوان «حتى الملائكة تسأل» (الكتابان الأخريان وهما قيمان للاطلاع والاقتناء والقراءة، «الصراع من أجل الإيمان»، و«الضياع الديني»).
لماذا القتل وسفك الدماء؟ هذا جعلني أيضا أتساءل عن قتل فنانة عربية اشتهر أمرها، فقلت في نفسي لماذا قتلت؟، كما طرح القرآن هذا السؤال المزلزل «وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت؟» هل كانت شهوة؟ أم شهرة أم غيرة؟ أم كراهية وانتقاما؟ هل كانت رد اعتبار؟ هل هي استخفاف بالعدالة الأرضية والشعور بالجبروت والتمكن، كما قال قارون؟
أين ذكرى الرب في الجريمة؟ أظن أن من يقدم على الجريمة يدخل في هذه الحالة، التي سماها القرآن على لسان قابيل: «فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله».
لقد عقد رشيد رضا في تفسيره المنار فصلا جميلا عند هذه العبارة، وهو أن المجرم لا يقدم على جريمته بسهولة؛ بل يضطرب حتى يصل إلى مرحلة الذروة في اتخاذ القرار والإقدام على الجريمة، وهو في تصوري ما وصل إلى حافته بعد تردد. هل كان المال الدافع لقتل الفنانة وذبحها بقلب بارد بالساطور؟ ولكن لا أظن أن ضميري الرجلين سيجدان الهدوء، ما لم يصلان إلى ما وصل إليه ابن آدم القاتل الأول من الندم الحقيقي والدخول في التطهير الروحي التعويضي، وهي حالة نفسية قد يصل إليها المجرم، وقد تضيع عنه ويضيع عنها حتى تأتي لحظة الموت. «ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين».
الجريمة والقتل وسفك الدماء كانوا موضع حيرة الملائكة، فسألوا الرب عن معنى خلق الكائن الجديد الذي اسمه إنسان: «أتجعل فيها من يسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟».
قال الرب: «إني أعلم ما لا تعلمون».
جاء الجواب وسره في ثلاث كلمات،
هنا نحن بين الجريمة وسفك الدم… وبين علم الله في الإنسان.
فما هو هذا العلم؟
حسب فلسفة جودت سعيد، الذي يذكرك بعقل سقراط وزهد أبي العتاهية، يرى أن إجابة القرآن عن الجريمة، وخاصة في قصة ولدي آدم تروي جدل الصراع الإنساني كله، وأن الإنسان سيصل إلى قدر من الكمالات يعتنق فيه مذهب ابن آدم الذي لم يدافع عن نفسه، لأن حل المشاكل يأتي من هنا.
إن القتل وسفك الدماء هما أفظع ما يفعله ابن آدم على وجه الأرض. ولعل صراع ولدي آدم القديم يظهر القصة على نحو أوضح، فقد خط كل منهما لنفسه طريقة في الحياة، وبالتالي أصبح من وراء ولدي آدم مذهبان في الحياة؛ من يؤمن بالقتل وسيلة لحل المشاكل، كما فعل رجل الأعمال والمال، ومساعده من مخابرات العرب، في ذبح الفنانة المسكينة بالخنجر والسكين.
ومن يؤمن بعدم الدفاع عن النفس، ولو هدد بالقتل، فقال: «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين».
والعالم منذ جريمة ابن آدم الأولى حتى اليوم قد جرب طريق سفك الدماء بما فيه الكفاية، من الحروب القومية، والمذهبية والطائفية والعالمية، ليصل في نهاية المطاف إلى القناعة الكاملة أنها طريق الخيبة والندامة، كما حصل مع ابن آدم الأول حين قال عنه القرآن: «فقتله فأصبح من الخاسرين، ثم من جديد فأصبح من النادمين». ومعنى الندم هو التوبة والاعتراف غير المباشر بصحة مذهب الذي لم يدافع عن نفسه.
«وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون».
الأخ شحيمط أرسل إلي يستفسر عن معنى سؤال الملائكة، حين تم الإعلان عن بعثه للحياة فوصفوه باثنين: الإفساد وسفك الدماء، ولكن كيف عرفت الملائكة سلفا طبيعة الكائن الجديد الذي سوف تسجد له الملائكة، بعد قليل؟ ويأبى الشيطان فيدخل اللعنة الأبدية. في التحليل المباشر يخطر في البال أنه ليس النموذج الأولي، فثمة من سبقه فأفسد وقتل، ولكن القرآن لا ينص على ذلك ويترك مساحة للتأمل.
الاحتمال الثاني أن الغيب المؤقت، أو طرفا من المسرحية الإنسانية كشف الغطاء عنه، فرأت الملائكة الأهوال! كما هو الحال في المذابح المكررة على وجه الأرض، سربرنيتشا في البوسنة، رواندا، وأخيرا سوريا مع المجرم بشار البراميلي! وقد يصلح لفهم لماذا قتل الرجل الصالح غلاما أمام عيني موسى، لأن المستقبل سوف يحمل له صورة بشار البراميلي أو بول بوت أو ستالين وهتلر. ويبقى الاحتمال الثالث أن الملائكة لا تعرف إلا الخير، فتوقعت أن من ليس من صنفها فهو سيئ قطعا. ولكن من أين تعرف الملائكة موضوع سفك الدماء؟ فهل أجبنا أم ليس من جواب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى